خلاصة RSS

Category Archives: الفريدة

لم أتخيل يوما أن أرثي أمي، لم أكن أصلا أعلم أن الكتابة عن الفريدة ستصبح روتينا وأن إحياء ذكراها سيصبح سلوى أتصبر بها على لوعة الفراق، رحمك الله يا سيدة قلبي، يا ألوان الحياة، يا نورا سطع وأفل وسيظل انعكاسه يظللنا ما حيينا

حياتنا بعد الفريدة

Posted on

مر حوالي الأربعة أشهر على رحيل حبيبتي. أكتب ودموعي تنهمر وأشعر بأنني أشتاق لها شوقا مؤلما وصعبا، مع كل يوم يمر، يزداد الإدراك وتتضح صورة هذا العالم بدونها، دون دعواتها، دون حماسها لما تؤمن به، دون آرائها في المستجدات، دون أناقتها وجمالها، دون قلبها الكبير وحبها اللامحدود الذي قد لا يرى، ولكنه يستشعر في كل ما كان يحفنا من بركة وتوفيق.

حبيبتي، نحن بخير. سامحيني لأنني لم أكتب عنك منذ فترة. يعلم الله كم بدأت كتابة ثم توقفت، لا أدري لماذا؟ هل لأنني مترددة بمشاركة المستجدات معك؟ لا أعتقد، فأنا أعلم يقينا أنك معنا بطريقتك، لم تفارقينا لحظة، ابتعدت فقط جسديا، أما روحيا فنحن لازلنا نشعر بحرارة وجودك، ورغم أنني أعلم أنك تعلمين، ولكن دعيني أشارك معك ما حصل معنا مؤخرا.

أهم حدث، والذي كان بمثابة طبطبة حنونة على قلوبنا جميعا رغم مرارة عدم وجودك لتشاركينا تفاصيله، هو خطوبة نور عينيك، فرحتنا الأولى وفاتحة عقد الأحفاد، مهند الغالي. نعم يا حبيبتي، أتذكرين حين التفت لهديل وأنت في المستشفى وسألتها(هديل، كلمتي الأوادم؟)، نعم لقد كلمتهم وكان القبول ومن بعدها الخطوبة واحتفال قراءة الفاتحة، والآن مهند رسميا لديه خطيبة جميلة إسمها رودين. يا الله يا حبيبتي نعلم أنك كنت بانتظار هذه اللحظة، أتخيل ما كنت ستلبسين وأشم عطرك وأرى مجوهراتك وقبلهم ابتسامتك العريضة. موقنة أنا يا نور عيني أنك هناك في المكان الذي ترقيت إليه ترين ما يحصل معنا وتبتسمين مباركة. وسأقول لك أيضا أنني لم أكن موجودة، كنت في رحلة عمل وشاركتهم الحضور عن بعد. كان الشعور غريبا، نعم، كنا جميعا سعداء بهذه الخطوة، ولكن مرارة عدم وجودك أشعر بأنها شئ سيصبح ملازما لكل حدث ومناسبة، ولعلها أحد المسلمات الجديدة التي علينا التعامل معها، فلا أتخيل ألا نفتقدك في المناسبات يوما ومهما مرت السنين، أتذكرين جمال حضورك؟ وهل هكذا حضور سيكون من السهل نسيانه أو الادعاء بأنه لم يكن؟ قررت شخصيا ألا انتظر ألا تكون هناك غصة، فلتكن، وسنبتسم ونتذكرك وندعو لك، وهل نملك إلا هذا؟

هذه الأيام اتذكرك يا حبيبتي أكثر من أي وقت. كل صباح لي شريط ذكريات منهمر لا يتوقف. لا أفتأ اتذكر حين تعينت كعميد للكلية وشعوري المعتاد بالقلق، وأنت تعرفينني حق المعرفة يا حبيبتي، أنت تحفظينني عن ظهر قلب وتعلمين أن تولي المناصب بالنسبة لي ليس مناسبة للاحتفال، فأنا لا أرى فيها سوى المسؤولية وتعرفين كم الهم الذي أحمله خشية ألا أكون شخصا عادلا، حكيما، متميزا وعارفا، وكالعادة، ومع فخرك بي، قمت بتذكيري بلطف (يا بنتي، إنت ماشاء الله عليك فيك خير كثير وتحبي تساعدي الناس، أخلصي النية، صلي ركعتين قضاء حاجة وقولي يا ربي وفقني وسخرلي، وأنا أيش قاعدة هنا بأسوي غير أدعيلكم؟ والله ربي يعلم أدعيلكم واحد واحد بالإسم وأطلب من ربي، خليكي مع ربنا وأخلصي النية). وها أنا هنا يا نور عيني، أدعو الله وأرجوه أن يرزقني الصدق والإخلاص وأن يوفقني لحسن العمل ويلهمني رشدي. يا الله، لكم كنت أنسى دائما أن أدعو لنفسي. كنت دائما مطمئنة أن جبهة الدعوات مغطاة بسجادة حبيبتي. كانت، رحمها الله، صوامة قوامة بطريقة كنا أحيانا نتندر عليها. فإذا ركبت معنا في السيارة، نكون في منتصف حديث حماسي وهي منهمكة معنا، وفجأة نجدها توقفت عن الرد، ونلتفت لها لنجدها تصلي قيام الليل، فنقول لها (ماما، محد يسوي في الناس كدة، في نص الهرجة نلاقيكي الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم بتصلي، مرة ثانية لو سمحت بس خلينا ننهي الهرجة ونعطي الخلاصة)، ونفس الشئ في البيت، تتركنا وتدخل إما لتأخذ قيلولة، وهذه قد تكون الساعة العاشرة مساء، أو لتصلي، ونحن نرغي ونزبد (يا ماما والله ما يصير كدة، خلينا شوية نهرج ونتساير)، وأنا شخصيا كنت أشعر بالراحة الشديدة لصلاتها ودعائها، فأنا أعلم بأنني وأولادي لنا نصيب الأسد، فاطمئن وتستكين نفسي.

لا أملك سوى أن أقول (ماما حبيبتي وحشتيني)، لا أرغب باستباق الأحداث وتخيل رمضان من دونك، أول يوم حيث ننتظر جميعنا سفرتك العامرة والأطباق الجديدة التي ستقدمينها للتجربة، وما ينال الاستحسان سيكون له حظا باقي الأيام، هذا مع عدم المساس بالمسلمات من شوربة الحب، سمبوسك البف واللحوح، وما عدا ذلك، فكنت بتنوعك وديناميكية شخصيتك لا تقبلين أن لا يكون هناك جديد، كل هذا لن يكون يا نور عيني لأنه لا معنى له من دونك، ولكن نعدك بأن نحتفل بقدوم رمضان، وسنقوم بكل الشعائر والطقوس، فلم تحبي يوما الإغراق في الحزن، وكان ديدنك الرضا والتسليم بقضاء الله، ورغم مرارة الفقد، نعدك يا حبيبتي أن نسير على نهجك ونرضى، وعزاءنا أن لقاءنا بك حتمي بإذن الله عند مستقر رحمته.

يارب، ارحم فريدتي واعل درجاتها في عليين، يا رب بقدر شوقنا لها ارزقنا الجبر والسلوان، يا رب نشهدك بأنها كانت سليمة الصدر جميلة الحضور محبة لك ولرسولك، فاجعلها عندك راضية مرضية وبلغها عنا كل ما يسرها، فإنك ولي ذلك والقادر عليه.

هتون،

٢/٢/٢٠٢٤

حين ترحل الأمهات

شهران ونيف على رحيل الفريدة. أتعلمون، خلتني بدأت بالتشافي. قلت نوبات البكاء وصار هناك نوع من التعود على الفراغ والغياب، ثم بدأت أفهم أنه ليس من الحكمة في شئ حين نتعرض لهكذا نوع من الفقد أن ننتظر التشافي ونترقبه، الأفضل أن نستعين بالله ونطلبه الجبر ولا ننتظر حتى لا تخدعنا فترات الهدوء النسبية، والتي لعلها نعمة من رب العالمين حتى لا نغرق في الحزن ولا نفعل شيئا، في الآخر، هذا قضاء الله، وجزء من الرضا هو أن يستكمل الإنسان حياته وينجز ويعمل.

اكتشاف أن التشافي هو عملية مستمرة وليس محطة وصول هو استنتاج توصلت له كعادتي بالطرق الصعبة. لا أدري كيف فجأة صعقت بحقيقة أن الإنسانة الوحيدة التي تحبني بلا قيد أو شرط قد رحلت، وللأبد. لم تعد أمي موجودة. تلك التي تدافع عني بكل ما أوتيت من قوة ذهبت. تلك التي قبلتني وأنا طفلة دائمة البكاء ومراهقة لا تطاق ترقت لمكان أفضل ولم تعد موجودة. تلك التي كانت تقضي الليل كله في الدعاء والابتهال لله بأن يحفظنا ويهدينا ويرزقنا ذهبت. يا الله، من غيرها مستعد لأن يصرف من وقته وطاقته وجهده في الابتهال المستمر والدعاء لنا؟ من سواها يستطيع قبولي بتناقضاتي وضعفي وطباعي جيدها وسيئها؟ هل حقا أصبحت خالية من ذلك القلب؟ لم تكن فريدتي تحسن التعبير عن مشاعرها، ولا كانت من النوع الذي يوزع الأحضان والقبلات والكلمات المعسولة طوال الوقت، ولكني كنت واثقة وموقنة يقينا لا يخالجه ذرة شك بأنها تحبني وكما يقولون (ما تسمع فيا)، والآن، من يحبني هكذا؟ كانت هي البوصلة، هي المنتهى في هذه الدنيا وإن لم نقلها صريحة. يقيني بأنها تحبني دون شروط أو توقعات كان مدخلا لي لحب نفسي، وتلك كانت رحلة طويلة عمرها بعمري، صارعت حتى أحب نفسي واتقبلها، والآن، عدت لمربع الصفر.

من عساه يحبني؟ لماذا أصلا قد يتقبلني أحد؟ شعور كبير بانعدام القيمة وفقدان الأمان وبالانكشاف أمام هذا العالم الكبير. كنت أشعر بالخوف، فأنظر إليها وألمح مسبحتها ولسانها الذي يلهج بالذكر فاطمئن دون حتى أن أصرح لها، ولا حتى لنفسي. أتعلمون ذاك الشعور الذي لا تدركون وجوده حتى ينتهي ويزول بزوال سببه؟ نعم هو ذاك.كنت ولازلت كتومة ولا أفصح عن مخاوفي ولا أحب أن يحمل أحد همي، ومع الفريدة، لم أكن بحاجة للتصريح، كانت تبتهل وتلجأ إلى الله بالدعاء دائما، وكان هذا مصدر دعم وطمأنينة وسكينة، أما الآن، فمن سيرغب بفعل أي شئ من أجلي؟ من سيطمئنني؟ من سيخبرني أن مآل الأمور لخير دائما؟ من سيشعر بأنني أهل لأن يصرف وقته في الدعاء لي؟ هل هناك من هو حقا مستعد لبذل أي مجهود مهما صغر حتى أكون راضية وسعيدة؟ يا الله كم أنت كبير ورحيم بخلق قلوب الأمهات، هن الرحمة في الأرض، هن الوطن والسكينة، وقالت العرب قديما (الأم تلم)، فمن عساه يلملم شتاتنا وبعثرتنا الآن؟ أي قلب سيستوعبنا جميعنا باختلافاتنا وخلافاتنا؟ من سيذكرني بالصدقة الشهرية وإن امتعضت؟

فريدتي، هل كنت حقا مستحقة لحبك وقلبك الكبيرين؟ هل شكرت نعمة وجودك في حياتي كما ينبغي؟ هل كنت أقدرك كما تستحقين؟ أعلم أنك لم تنتظري شيئا منا يوما، أعلم هذا على وجه اليقين، فأنا أم، أعطي ولا انتظر ولا أشعر أصلا باستحقاق العطاء المقابل، وإن طلبته فلأجلهم هم حتى يتعلموا العطاء والبذل، ولكن ماذا عساني أفعل الآن دون حبك اللامحدود؟

يا الله، أنت خلقتها وأنت قبضتها وأنت من صنعتها على عينك، فارحمها واغفر لها وارحم حالنا واجبرنا وارزقنا الرضا والسكينة والعوض الجميل، فأنت ولي ذلك والقادر عليه.

هتون،

٢٠/١٢/٢٠٢٣