خلاصة RSS

Monthly Archives: نوفمبر 2023

تعايش

تمر الأيام. نعم يجب أن تمر لأن هذا ديدنها وقدرها. منذ بدء الخليقة، وحتى يأذن الله لهذه الحياة الدنيا بالنهاية، وسننه تعالى سارية، وفعليا، لو كان سبحان من تقدست أسماءه سيوقف الدنيا أو يجمد الكون لأحد، لكان هذا لأنبيائه ورسله، ولكنها ستستمر. أذكر أنه بعد حوالي خمسة أيام من ترقي حبيبتي ونور عيني لدار الحق، خرجنا لأول مرة لحضور يوم عزاء ممتد في جدة لمن لم يستطع حضور العزاء في بيت حبيبتي بمكة المكرمة، ولا أدري لماذا استغربت من حركة المرور الكثيفة ومن ازدحام المحلات، واكتشفت لحظتها أن الكون عندي كان متجمدا عند اللحظة التي تلقيت فيها خبر وفاة فريدتي. وساعتها، ولأننا بشر ضعفاء محدودون، توقف تفكيري تماما وشعرت أن العالم بقاراته ودوله وحضاراته اختصر وتقلص ولم يعد له معنى أو أهمية. ولعل خروجي ذاك اليوم كان أول مواجهة مع حقيقة أن ما حصل هو جزء من دورة الكون وتلازم الموت والحياة والتي جعلها الله سنة كونية، فكما هناك حياة، لزم أن يكون هناك موت، وتستمر الحياة.

حسنا يا فريدتي، والله لا مشكلة لدي مع فكرة وفاتك، أشهد الله تعالى أنني راضية، وعندي ثقة كبيرة فيه تعالى بأنك منعمة وراضية مرضية عنده تعالى، ولكن التعايش صعب مع غياب تفاصيلك. سأبلغك أننا تجرأنا وقمنا بفتح خزانة ملابسك. حسنا، أعلم جدا أنك أنيقة. لا أعتقد أن هذه النقطة تحديدا تحتاج لأي إثبات، فصورك قديما تثبت أن الجمال والأناقة لطالما كانا مرادفان لإسمك، لقد كنت سابقة لعصرك وزمانك، حتى حين تردى الذوق في ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم، كنت أنت ثابتة على الكلاسيكيات ولم تنجرفي يوما لموضة لا تناسبك. لقد أخبرتك مسبقا حين كبرت وتواجهنا بشفافية في مسائل كثيرة كيف أن جمالك ورشاقتك كانا سببا لمعاناتي في طفولتي ومراهقتي. حين كتبت كتابي (١٩٨٠، بين جيلين)، استرجعت مشاعري كطفلة نحوك وكيف كنت أنظر إليك وأعجب كيف لك أن تكوني بهذا الجمال وهذه الرشاقة حتى بعد إنجاب ستة من الأطفال. كنت مصدر فخر وعذاب لي في نفس الوقت. كنت أرغب أن يري العالم كله، والذي كان في طفولتي مقتصرا على مجتمع المدرسة والعائلة، جمال أمي وفخامتها، فكنت أترقب مجالس الأمهات حتى أباهي بك العالم. أما بيني وبين نفسي، فكنت أشعر بأنني مهما فعلت فلن أستطيع مواكبة حسنك وأنني لا أستحق أما مثلك. لا أخفيكي أنني كنت أشعر بأنك تخجلين مني لأنني لست شقراء شهباء مثلك وكنت زائدة الوزن، وأنت والله لم تلمحي لي يوما بأن سمرتي كانت عيبا إنما بالعكس، لطالما كانت جملتك لي (السمارة أمارة، ووجهك حلو ومدور زي القمر). أما زيادة الوزن، فلن نخفي على بعض يا فرودة أن هذه الزيادة كانت إحدى أسباب معاناتك معي في الطفولة وأحد أسباب نفسيتي السيئة خلال مراهقتي. والله لقد أتعبتك يا فرودة، محاولات تنحيفي والتي أسهبت عنها في كتابي أخذت الكثير من طاقتك سابقا، أنت الأم لستة أطفال، كنت تسخرين لي وقتا ومجهودا كبيرين حتى أنحف، وكنت أنا بعقليتي القاصرة وقتذاك لا أرى في ذلك سوى عدم قبول وعدم استحقاق لأن تكوني أمي. أتعلمين أنه حين فقدت الكثير من الوزن قبل زمن طويل، تحديدا قبل تخرجي من الجامعة، كانت أكبر مكافأة لي والتي أشعرتني بالكثير من الرضا هي أنني استطعت أن ألبس قطعة من ملابسك وكان مقاسها مناسبا؟ والله لازلت أذكر كيف نظرت لنفسي في المرآة ويملأني الزهو والفخر، نعم، الان فقط ستفخر بي فرودة، سامحيني يا حبيبتي، كنت صغيرة ولا أفهم. والآن يا حبيبتي، يا جميلتي، أستطيع بسهولة أن ألبس ملابسك. نعم، خسرت الكثير من الوزن منذ سنوات، ورأيتني أخيرا بالصورة التي طالما تمنيتها لي طوال حياتك وحياتي، والآن، ارتديت بعضا من ملابسك. أتذكرين ذاك الفستان الوردي ذي اللون الزاهي الذي كنت ترتدينه أحيانا في زيارات خالاتي؟ لقد لبسته يا حبيبتي، وكان جميلا باهيا ناعما، شعرت بأنه يحتضنني ويواسيني، هذا فستان فرودة الحلوة الأنيقة. وأخذت قطعا أخرى يا معشوقتي، وأعدك أن أكون كما كنت تحبين أن نكون دائما، أنيقات لائقات في كل الأوقات، ولعلنا نكون امتدادا للجمال الذي أسست قواعده، طبعا من الصعب جدا مواكبته، ولكن أعدك أن نحاول.

قلبي يؤلمني، لقد اشتقت لك شوقا كبيرا عظيما يتعاظم يوما بعد يوم، ولا نقول إلا ما يرضيه تعالى، إنا لله وإنا إليه راجعون.

هتون،

٢٨/١١/٢٠٢٣

المزيد من المعاني أيتها الفريدة، والكثير من الاكتشافات

خمسة أسابيع على يوم الترقي، أو كما أعتقد أنني سأسميه “يوم الحزن الأكبر”، يوم فقد الحبيبة الفريدة. ماذا أحكي وماذا أقول، هذا الوجع والفراغ تجربة فردية لا يمكن أن تتشابه مع أحد، ولكن هناك مشتركات ومتقاطعات توحد التجربة وتجعل التعاطف والعزاء ممن مر بها سابقا حقيقي وذو معنى. تفاصيل ذاك اليوم لازلت لست مستعدة للكتابة عنها. نعم كنت بكامل الوعي رغم الصدمة، وأذكر تماما ما حصل وكيف تصرف الآخرون، وهي ما سأدونه يوما بتفاصيله ومفارقاته وعجائبه، ولكن في وقت لاحق.

حتى الآن، لازلت أحار في هذه الحقيقة. كيف يا حبيبتي تفقد أبسط الأشياء معناها بدونك؟ سأقول لك شيئا قد يبدو تافها، أتعلمين أنه منذ رحيلك ونحن نتجنب وجبة السمك في غداءنا الأسبوعي؟ أتعلمين لماذا؟ حسنا سأخبرك، أولا لأنه فعليا هذه الوجبة بتفاصيلها تعبر عنك. شوربة الثمار البحرية، السمك المقلي، الصواني التي كنت كل فترة تجددين فيها حتى لا نمل، السمك المشوي والجمبري، كل هذه التفاصيل وحتى ضيافتك لأحبائك على السفرة أشياء لا تنفصل عنك، أحقا سيكون لها طعم بدونك؟ أما السبب الذي والله نخجل من ذكره، هو أننا لا نعلم كيف نطلب الأنواع، وماذا يصلح لماذا ولا حتى الكميات التي تكفينا. أذكر حين كنت مسافرة في إحدى المرات وأردنا أن نطلب سمكا واتصلت عليك لتبلغيني بالكميات التي تكفينا والأنواع، وأخبرتني بالتفاصيل وطلبنا كل شئ، هل تراني كنت أتخيل أن معلومات كهذه كانت واجبة الأرشفة حتى نرجع لها لاحقا؟ لم نتصور ولا ثانية واحدة أن الفريدة سترحل وتتركنا غارقين في تفاصيل تبدو سهلة وبسيطة ولكننا لم نكن نشعر بأهميتها، فلماذا عسانا نهتم؟ كانت دائما موجودة. كانت دائما معطاءة وجاهزة لاستقبال الجميع. كنا نأتي إلى بيتها العامر أسبوعيا مع أولادنا ونسرح ونمرح وهي ترتب كل شئ، ونحن فقط نجلب المفرحات على الهامش بجانب ما جلبته هي لأحبائها الأطفال. أتذكرين يا فرودة حين كان يتسلل أحفادك الحسن وأمين وآدم باحثين عن كيس المفرحات الذي كنت تضعينه في الخزانة الواقعة بجانب باب غرفتك؟ لازال هناك مفرحات، ولكن لا أحد يتسلل، ولا فرودة تمنح بسخاء وعطاء.

ماذا فاتنا أيضا ولم نأرشفه؟ آه يا حبيبتي لقد فاتنا الكثير. كل يوم يمر نكتشف ضياعنا بدونك. نحن المتعلمون الفاهمون المستقلون نشعر بالورطة دون كلمتك المعتادة (خلاص سووا كدة وكدة وكدة، وكله يمشي)، نعم كله يمشي، لا شئ يتوقف، ولكن لا شئ سيعود كما كان.

رحمك الله يا نور عيني رحمة مرسلة ليوم الدين، يا رب اشتقنا لها ولروحها ولوجودها ولضحكاتها ومناكفاتها، يا رب اجعلها راضية مرضية عندك، واجبر كسرنا في فقدها يا رب.

هتون،

١٨/١١/٢٠٢٣