خلاصة RSS

Monthly Archives: ديسمبر 2023

حين ترحل الأمهات

شهران ونيف على رحيل الفريدة. أتعلمون، خلتني بدأت بالتشافي. قلت نوبات البكاء وصار هناك نوع من التعود على الفراغ والغياب، ثم بدأت أفهم أنه ليس من الحكمة في شئ حين نتعرض لهكذا نوع من الفقد أن ننتظر التشافي ونترقبه، الأفضل أن نستعين بالله ونطلبه الجبر ولا ننتظر حتى لا تخدعنا فترات الهدوء النسبية، والتي لعلها نعمة من رب العالمين حتى لا نغرق في الحزن ولا نفعل شيئا، في الآخر، هذا قضاء الله، وجزء من الرضا هو أن يستكمل الإنسان حياته وينجز ويعمل.

اكتشاف أن التشافي هو عملية مستمرة وليس محطة وصول هو استنتاج توصلت له كعادتي بالطرق الصعبة. لا أدري كيف فجأة صعقت بحقيقة أن الإنسانة الوحيدة التي تحبني بلا قيد أو شرط قد رحلت، وللأبد. لم تعد أمي موجودة. تلك التي تدافع عني بكل ما أوتيت من قوة ذهبت. تلك التي قبلتني وأنا طفلة دائمة البكاء ومراهقة لا تطاق ترقت لمكان أفضل ولم تعد موجودة. تلك التي كانت تقضي الليل كله في الدعاء والابتهال لله بأن يحفظنا ويهدينا ويرزقنا ذهبت. يا الله، من غيرها مستعد لأن يصرف من وقته وطاقته وجهده في الابتهال المستمر والدعاء لنا؟ من سواها يستطيع قبولي بتناقضاتي وضعفي وطباعي جيدها وسيئها؟ هل حقا أصبحت خالية من ذلك القلب؟ لم تكن فريدتي تحسن التعبير عن مشاعرها، ولا كانت من النوع الذي يوزع الأحضان والقبلات والكلمات المعسولة طوال الوقت، ولكني كنت واثقة وموقنة يقينا لا يخالجه ذرة شك بأنها تحبني وكما يقولون (ما تسمع فيا)، والآن، من يحبني هكذا؟ كانت هي البوصلة، هي المنتهى في هذه الدنيا وإن لم نقلها صريحة. يقيني بأنها تحبني دون شروط أو توقعات كان مدخلا لي لحب نفسي، وتلك كانت رحلة طويلة عمرها بعمري، صارعت حتى أحب نفسي واتقبلها، والآن، عدت لمربع الصفر.

من عساه يحبني؟ لماذا أصلا قد يتقبلني أحد؟ شعور كبير بانعدام القيمة وفقدان الأمان وبالانكشاف أمام هذا العالم الكبير. كنت أشعر بالخوف، فأنظر إليها وألمح مسبحتها ولسانها الذي يلهج بالذكر فاطمئن دون حتى أن أصرح لها، ولا حتى لنفسي. أتعلمون ذاك الشعور الذي لا تدركون وجوده حتى ينتهي ويزول بزوال سببه؟ نعم هو ذاك.كنت ولازلت كتومة ولا أفصح عن مخاوفي ولا أحب أن يحمل أحد همي، ومع الفريدة، لم أكن بحاجة للتصريح، كانت تبتهل وتلجأ إلى الله بالدعاء دائما، وكان هذا مصدر دعم وطمأنينة وسكينة، أما الآن، فمن سيرغب بفعل أي شئ من أجلي؟ من سيطمئنني؟ من سيخبرني أن مآل الأمور لخير دائما؟ من سيشعر بأنني أهل لأن يصرف وقته في الدعاء لي؟ هل هناك من هو حقا مستعد لبذل أي مجهود مهما صغر حتى أكون راضية وسعيدة؟ يا الله كم أنت كبير ورحيم بخلق قلوب الأمهات، هن الرحمة في الأرض، هن الوطن والسكينة، وقالت العرب قديما (الأم تلم)، فمن عساه يلملم شتاتنا وبعثرتنا الآن؟ أي قلب سيستوعبنا جميعنا باختلافاتنا وخلافاتنا؟ من سيذكرني بالصدقة الشهرية وإن امتعضت؟

فريدتي، هل كنت حقا مستحقة لحبك وقلبك الكبيرين؟ هل شكرت نعمة وجودك في حياتي كما ينبغي؟ هل كنت أقدرك كما تستحقين؟ أعلم أنك لم تنتظري شيئا منا يوما، أعلم هذا على وجه اليقين، فأنا أم، أعطي ولا انتظر ولا أشعر أصلا باستحقاق العطاء المقابل، وإن طلبته فلأجلهم هم حتى يتعلموا العطاء والبذل، ولكن ماذا عساني أفعل الآن دون حبك اللامحدود؟

يا الله، أنت خلقتها وأنت قبضتها وأنت من صنعتها على عينك، فارحمها واغفر لها وارحم حالنا واجبرنا وارزقنا الرضا والسكينة والعوض الجميل، فأنت ولي ذلك والقادر عليه.

هتون،

٢٠/١٢/٢٠٢٣

شهران، مع بعض التفاصيل

استلمت قبل أيام نسخ الطبعة الثانية من كتابي (١٩٨٠، بين جيلين). ولمن لا يعلم، فهذا الكتاب قمت بتأليفه ونشره خلال عامي ٢٠١٩ و ٢٠٢٠ مع دار أروى العربية للنشر والتوزيع، وهو حاليا متوفر في معرض الكتاب بمدينة جدة.

حين قمت بتأليف الكتاب، والذي هو بالمناسبة عبارة عن سيرة ذاتية توثق حياة امرأة عادية جدا من جيل الثمانينات، وجدت نفسي وبلا وعي أربط كل أحداث حياتي بفقيدتي الغالية الفريدة. حقيقة نحن نجهل تماما كيف تشكل أمهاتنا، بدون شعور منهن أو منا، حياتنا ونظرتنا للأمور وفهمنا للحياة. كتابتي لهذا الكتاب كان عبارة عن رحلة اكتشاف وعلاج كاشفت نفسي خلالها باضطراباتي ونظرتي القاصرة لبعض الأمور في الحياة وكيف تجاوزت الكثير من المصاعب والتحديات، والأهم، كيف فهمت علاقتي بالفريدة وكيف تفهمت الكثير من الأمور التي لم أكن أراها سوى بزاوية واحدة محكومة بمحدودية الطفولة وفوران الهرمونات في المراهقة والغضب الذي قد يعتريك حين تكبر قليلا. تفهمت أن رغبة جميلتي فرودة بتنحيفي الدائمة كانت لغة حب تجاهي وليست لغة عدم تقبل أو خجل. فهمت أن عدم سؤالي عن مذاكرتي وتحصيلي الدراسي كان ثقة بي وإيمانا بأنني “دافورة” ودائما على قدر المسؤولية، وأن سؤالها الدائم لأخواتي عن مذاكرتهن لا تعني أنها تحبهن أكثر مني بتاتا، صحيح أنني أتعبتها وأتعبت نفسي حتى وصلت لهذه النتيجة، ولكن أن تصل متأخرا خير من أن لا تصل، ولم أكن أعلم أن الوقت المتبقي معك يا فريدتي قصير جدا، كان كافيا لأن تقرأي الكتاب وتهديه لأحبائك، ولكني الآن أشعر بأن الوقت لم يسعني لأن استمتع بصحبتك وأنا ناضجة وعاقلة لأفهم واتفهم أمومتك الفريدة، ولأستوعب كم كنت جميلة ونقية، أقسم بالله أنني لم أقابل في حياتي أحدا بنقائك وصفاء سريرتك، كم أنت محظوظة لتلقي ربك هكذا مخففة من أعباء حقوق عباده، ونحسبك هكذا وربك حسيبنا جميعا.

والآن، ماذا أفعل بنسخ الكتاب وكلها مدججة ب (أمي حفظها الله)؟ ماذا أقول وأحكي عنك أكثر مما حكيت في الكتاب؟ فجأة استوعبت بأنني ورغم طول صفحات الكتاب، لم أكتب عنك سوي النذر اليسير. قد أكون أسهبت كثيرا عن جمالك الأخاذ الذي لا أظنه يتكرر، ولعلي فعلت ذلك لأنه فعليا طوال سنوات طفولتي لم أكن استوعب سوى أنك أجمل ما رأت عيناي، حقيقة وليس مجازا، ولم أكن أعلم كم أنت ذكية ولماحة. كنت قوية الحافظة وسريعة البديهة ولديك ذكاء أرقام لم يتمتع أحد منا ولا حتى بربعه. كنت أذكر أنك في المحلات التجارية حين ترغبين بتخفيض السعر، تحسبين النسبة المئوية وتسهلي على البائع، كما كنت تستطيعين بدون أي مجهود يذكر حساب تكاليف سفرة ما أو مناسبة وتدوينها بدقة عجيبة، كما كنت تسترجعين ما تحفظينه من القرآن في كل مراحلك العمرية وكأنك طالبة نجيبة لازالت في المدرسة. كنت أسمع الكثيرات يندبن حظهن ويتحسرن على فوات فرص كسب مادي، فرص زواج أو ما شابه، أما أنت فكانت حسرتك الدائمة أنك لم تكملي دراستك الجامعية، وهذا ليس لأنك لم تتمكني من دخولها، بل لأنك وقتها دخلت معهد المعلمات وبدأت التدريس بعمر صغير جدا، ورغم أنك كنت معلمة من الأوائل واللاتي كان يشار لهن بالبنان، إلا أنك أصررت على إكمال الثانوية بنظام المنازل، وكانت أكبر حسراتك بالإضافة لعدم إكمال الجامعة هو عدم استمرارك في الوظيفة، ولهذا قصة أدرجتها في الكتاب باقتضاب، ولعلي أكملها في كتاب خاص أعنونه ب “الفريدة”.

فريدتي، يا حبيبتي ومعشوقتي، لم استوعب يوما أن الكفاح والإصرار وعدم التسليم بواقع لا يرضينا كان ببساطة طبع اكتسبناه منك. لا أذكر أنك يوما، ورغم أنك لم تكوني موظفة، كنت فارغة بدون عمل أو مشروع. أذكر الآن الخياطة “رفيعة” التايلندية والتي استقدمتها مباشرة من تايلند كتدشين لمشروع المشغل المنزلي في دارنا آنذاك بشارع الستين والذي لا زلنا نسميه (بيت الشيخ يار). كان ذاك المنزل غريبا بتقسيماته، غرفه قليلة لكنه واسع شاسع المساحة بصالات غير مستغلة. ولأن عقلك دائم الحركة، قمت باستغلال المساحة وعملت على مشروعك والذي كنت أيامها أراقبه من بعيد وأحاول أن أفهم، ولم أكن وقتها استوعب أن مشروعك هو تجسيد للمشاريع الريادية والتي تحل مشكلة قائمة والتي كانت وقتها قلة المشاغل النسائية في مكة المكرمة وتردد النساء من زيارة المشاغل الرجالية وتحسسهن من مسألة أخذ المقاسات والقياس وغيرها من الأمور. وتوالت مشاريعك بعدها، فمن (لوران للسيدات) في وقت كانت فيه مشاريع الصالونات التجميلية تحارب وتمنع، لمشروع (كافيتيريا الملتقى) بجامعة أم القرى والذي استمر قرابة العشرين عاما وحتى صالون (ضوء القمر) والذي شكل علامة فارقة بمكة المكرمة، كلها كانت تجسيدا لرغبة الفريدة الدائمة بالتمكن المادي وعدم استسلامها لغياب الدخل بعد أن تركت الوظيفة بطلب من الوالد بعد أن بدأنا نحن بالتوافد واحدة بعد الأخرى. وها أنا أرى نفسي وأنا أكافح الحياة بطاقة وتوكل وعدم تسليم، واتذكر الفريدة وكلماتها والأهم، تصرفاتها ودعمها. كنت أحيانا أشعر بأن مكابدتها ومحاولاتها الدائبة لا تستحق، ولطالما جوبهت بالإحباطات والخسائر، لكن أقسم بالله أنني لم أرها يوما ساخطة أو حزينة بسبب خسارة مادية، كانت تحاول لملمة الأمور والبدء من جديد. يا حبيبتي، ذكر الله والتوكل عليه كانا دائما ملازمين لك، منك تعلمت ألا أقلق من الرزق لأنه مكتوب، وتعلمت منك أن ألجأ إلى الله وحده لطلب الرزق والتمكين مع السعي، لطالما قلت لي (يا بنتي، ركعتين في الليل قضاء حاجة واطلبي من الله كل اللي تبغيه، الله يرضى عليك لا تتركي حبل الله)، والآن وأنا أجابه حرقة فقدك، وأنت لست هنا لتعطيني إحدى وصفاتك السحرية لأجابه الدنيا من بعدك.

رحمك الله يا حبيبتي ومتعك في جنات النعيم، فقط أقول لك بأننا بخير، ولكننا اشتقنا لك، والله إن الدنيا موحشة بدونك، ولكن الأنس به تعالى، نسأله أن يربط على قلوبنا ويرينا بشائر جبره.

هتون، ٩/١٢/٢٠٢٣