بداية عام ٢٠١٤، عدت لديار الفرنجة بعد إجازة قصيرة قضيتها في المملكة و أنا محطمة نفسياً و جسدياً. كان لدي الكثير من العمل سواء في بحث الدكتوراة أو نون النسوة، فكانت الإجازة عبارة عن دوامة لا تنتهي من العمل مع بداية ظهور علامات إتخاذي للقرار الذي طالما أجلته و الذي يخص حياتي الزوجية. مع تسارع وتيرة المشاكل قررت أن أواجه جبني و خوفي و تجرأت و حسمت موضوع إنهاء زواجي الذي استمر قرابة الإثني عشر عاماً. كان مجرد تفكيري في حسم الموضوع يرعبني، فكنت أمارس هوايتي المعتادة بالترقيع و التأجيل مع علمي يقيناً أن هذا اليوم قادم لا محالة. هنا نظرت لمرايتي و قلت لها (I think I’d better leave right now before I fall any deeper) (من الأفضل أن أرحل الآن قبل أن أقع أكثر)، كنت قد استخرت الله كثيراً لفترة طويلة و كنت دائماً أطلب منه أن يرشدني و كنت موقنة بأن هذه مشيئته تعالى، و لكني للحق لم أستشر أحداً، من يهمني أمرهم و هم عائلتي المقربة جداً و أهله كانوا على دراية تامة بكل خلفيات الموضوع و لم يستغربوا أبداً القرار فقد كانوا يتوقعونه، مالم أتوقعه أنا و لم يخطر على بالي أبداً هو وقع الأمر علي و كيف تعاملت معه. سمعت كثيراً أن الإنفصال قرار صعب و آثاره النفسية سيئة و كنت أعلم ذلك نظرياً و لكن (اللي يشوف غير اللي يسمع). أول مراحل الإنهيار الكبير كان حين شاهدت خزانة ملابسه و قد فرغت من الملابس و كل ما يتعلق به، شعرت بيد باردة تعتصر قلبي و لا أدري كم انتحبت وقتها، لا أدري حتى لم كنت أنتحب، أليس من الطبيعي أن يرحل؟؟ أليس هذا قرارنا؟؟ لماذا أشعر هكذا؟؟ هنا اكتشفت شعوراً بشرياً بغيضاً لم أكن أعلم بوجوده، هو شعور أن لا تعرف ماذا تشعر، هل أنا نادمة؟؟ لا أبداً لست نادمة فأنا واثقة أن ما فعلته هو عين الصواب، هل أنا غاضبة؟؟ لا فأنا لست حانقة أبداً من شئ و لا أشعر بأن الإثني عشر عاماً قد ضاعت هباءً فقد أنجزت فيها الكثير بفضل الله و أنجبت أولادي الذين أرى الحياة من عيونهم، هل أنا حزينة؟؟ أيضاً لا أعلم، شعرت بالحنق، لا لا لا لا ليس هذا ما كنت أخطط له، أردت إنهاء هذه العلاقة لنرتاح جميعنا، فلماذا أنا أشعر بهذا الشعور الغريب الذي لم أضعه في الحسبان؟؟ لماذا أشعر بانخلاع قلبي؟؟ قلت ربما يكون فقط منظر الخزانة الفارغة قد أثار شجوني و ربما هناك في عقلي الباطن من طفولتي منظر خزانة فارغة تم تحفيزه بطريقة ما فحزنت (استحضرت كل نظريات التنمية البشرية حتى اللي أشوفها هبلة)، ما أردت مقاومته فكرة أن أكون إنساناً ضعيفاً يحزن و يتألم لقرار اتخذه بكامل إرادته. في الأيام التي توالت بعد رحيله حصل عكس ما كنت أتوقعه تماماً، تلك اليد الباردة التي اعتصرت قلبي حين رأيت الخزانة قررت أن ترافقني لأيام يعلم الله عددها. كنا قد اتفقنا ألا نخبر الأولاد بموضوع انفصالنا حتى نجهزهم نفسياً، فكانت مهمتي المستحيلة أن أُداري الكائن المحطم الذي استحلته و الذي لا أعرفه حتى لا يراه أولادي، وجدت نفسي أستيقظ صباحاً بعد ليلة انتحبت فيها لوقت لا أعلمه لأغسل وجهي و أرسم ابتسامة بائسة و أوقظ أولادي و أحضر لهم الإفطار و أوصلهم للمدرسة و أنطلق لجامعتي. كنت أحاول أن أتدارى خلف النظارات الشمسية حتى لا يرى أحد انتفاخ عيني و يسألني ما بك، كنت أشعر بالرعب من هذا السؤال و أشعر بالرعب أكثر من أن يلاحظ أحد انهياري. كنت أحاول أن أدفن نفسي في العمل لكن فجأة كانت تأتيني رغبة عارمة بالنحيب فأحاول مقاومتها و أحنق على نفسي أكثر (يا هبله يا هبله يا هبله إشبك مو دا اللي انت كنت تبغيه من زمان، أيش الغباء دا؟؟ إنت مو كدة ايش أم الدراما اللي انت فيها دي) كنت أهرب لأي مكان في المبنى أحرص أن يكون فارغاً و أفرغ شحنة البكاء و أعود لمكتبي لأجد نفسي أفتح مقالات عن الطلاق و أثره المدمر على الأولاد فأدخل في دوامة نحيب أخرى. هنا نظرت لمرايتي و قلت لها بغضب (أنا مش عارفني أنا تهت مني أنا مش أنا ) هذا المخلوق المحطم ليس أنا، مر علي في حياتي الكثير لكن لم يكسرني شئ، لم أتعود الشكوى لأحد و لا أتحمل أن يشفق علي أحد، كنت أطلب من الله أن يخفف عني و يهديني لما يريح قلبي، كنت أفتح المصحف و أقرأ و تغالبني دموعي، القرب منه تعالى كان يطمئنني، كنت بحاجة شديدة لأن يكون أحد معي لكن كرامتي الغبية و اعتزازي بنفسي منعاني، تجنبت صديقاتي و تجاهلت عروضهم بالمساعدة و أكدت لهم أنني بخير في حين أنني كنت أحتاجهم بشدة. كنت مرة أتحدث مع أمي على الهاتف و قالت لي شيئاً جعلني أنتحب بطريقة اهتز لها جسدي كله و لم أقو على التوقف، قلقت أمي جداً و لم تصدق أن هذه أنا، لعنت أمي الغربة و البعد و تقرر وقتها أن أبي سوف يأتي لمرافقتي مؤقتاً و لكني عكس أمي كنت ممتنة جداً للغربة، الوحدة عندي أهون من العيش وسط اللغط و عبارات (الله يعوض عليك) و غيرها. بطبيعة الحال لاحظ أولادي حالتي البائسة و ظلوا يسألونني ماذا بي، أنا بطبيعتي أحب المرح و أكره الدراما و ملكاتها فلماذا أصبحت واحدة منهن؟؟ حنقي على نفسي كان أكثر من حقدي على أي شئ، حاولت قمع هذا الكائن المحطم لكنه كان يغلبني، كنت أشعر به ينظر إلي و يمد لسانه بسخرية قائلاً (تحسبي نفسك قوية؟؟ هيا كلي). تجنبت أيامها الشبكات الإجتماعية و كنت أدخل فقط للتصفح، كان من السهل علي التنفيس عن حزني فيها و لكني كنت أشعر بأن مشاعرنا الإنسانية أغلى من أن تُبعثر هكذا، ثم ماذا سأجني من مشاركة حزني؟؟ لن ينوبني سوى (التنكيد على الناس) و تعريض مشاعري للمزايدة، و لا أغلى على المرأة بالذات من مشاعرها فلن أهينها بعرضها. كنت في مرحلة صعبة جداً شبهتها بأعراض الإنسحاب من المخدرات، هي هكذا العلاقات الفاشلة، قد ندمنها و ندفع الثمن غالياً لنتخلص منها. مرت الأيام و بدأ الألم يخف تدريجيا و بدأ السلام يتسلل داخلي، نظرت لمرايتي و قلت لها (الوجع عمره ما بيعيش بالسنين)، فعلاً لا شئ يستمر و مرور الزمن كفيل بالتخفيف بعون الله. بعد أن هدأت نفسي و بدأت أفكر وجدت نفسي تعاتبني بشدة على ما فعلته بها. لقد قمعت مشاعري الطبيعية بالفقد و أسميتها ضعفاً، لقد عشت مع هذا الشخص إثني عشر عاماً تشاركنا فيها المسكن و المأكل و أنجبنا طفلين فكيف لا أشعر بالفقد مهما كانت الحياة فاشلة و مهما كان القرار صائباً؟ لماذا لم أقبل عرض صديقاتي بالمساعدة؟؟ لماذا المكابرة و العناد؟؟لماذا لم أتقبل ضعفي المؤقت؟؟ ألا أستحق أن تقف صديقاتي معي؟؟ بعد هذه الفترة قررت أن أبدأ مرحلة جديدة في التصالح مع الذات و أتقبل ضعفي البشري و لا أقمعه. و ها أنا الآن، أفضل و أنضج و أكثر تصالحاً مع نفسي، أولادي علموا بالوضع و تقبلوه و يقومون بالتواصل مع والدهم بصورة اعتيادية و لازالت علاقتي مع أهل زوجي السابق أكثر من رائعة بفضل الله. للحق لم أتخيل نفسي أن تأتيني الجرأة لأتحدث عن هذا الموضوع علناً و كما أسلفت كنت دائمة الإنتقاد لبعثرة المشاعر الإنسانية الخاصة و لكن الآن الوضع مختلف، لم أكتب بحثاً عن التعاطف أو الشكوى فلست وحدي من مرت بهكذا تجربة بل بالعكس هناك الكثير ممن تعرضن و لا زلن يتعرضن للطلاق القبيح الذي يتم فيه مساومة المرأة على حريتها و غير ذلك، شعرت بأنني كنت مريضة و شفيت فأردت أن أدون قصة شفائي لتبعث الأمل في من يعاني، أنا الآن أكتب بشجاعة و لا أخشى من أن يزايد أحد على مشاعر تجاوزتها منذ فترة. دائماً نستسهل الحديث عن المرض الجسدي و نشجع الحديث عنه بانفتاح، لكن ماذا عن الألم النفسي؟؟ لماذا نخشى الحديث عنه؟؟ لماذا نخشى الحديث عن الطلاق كتجربة شخصية؟؟ المهم أنني الآن أنظر إلى مرايتي و أقول لها (let it go let it go, turn away and slam the door) و لله الحمد حياتي مستمرة و أرى الكون بعيون أولادي أسأل الله أن يحفظهم و أعلم يقيناً أن الله دائماً يخبئ لنا سعادةً و رضا.
هتون قاضي،
نوڤمبر ٢٠١٤