خلاصة RSS

حين ترحل الأمهات

شهران ونيف على رحيل الفريدة. أتعلمون، خلتني بدأت بالتشافي. قلت نوبات البكاء وصار هناك نوع من التعود على الفراغ والغياب، ثم بدأت أفهم أنه ليس من الحكمة في شئ حين نتعرض لهكذا نوع من الفقد أن ننتظر التشافي ونترقبه، الأفضل أن نستعين بالله ونطلبه الجبر ولا ننتظر حتى لا تخدعنا فترات الهدوء النسبية، والتي لعلها نعمة من رب العالمين حتى لا نغرق في الحزن ولا نفعل شيئا، في الآخر، هذا قضاء الله، وجزء من الرضا هو أن يستكمل الإنسان حياته وينجز ويعمل.

اكتشاف أن التشافي هو عملية مستمرة وليس محطة وصول هو استنتاج توصلت له كعادتي بالطرق الصعبة. لا أدري كيف فجأة صعقت بحقيقة أن الإنسانة الوحيدة التي تحبني بلا قيد أو شرط قد رحلت، وللأبد. لم تعد أمي موجودة. تلك التي تدافع عني بكل ما أوتيت من قوة ذهبت. تلك التي قبلتني وأنا طفلة دائمة البكاء ومراهقة لا تطاق ترقت لمكان أفضل ولم تعد موجودة. تلك التي كانت تقضي الليل كله في الدعاء والابتهال لله بأن يحفظنا ويهدينا ويرزقنا ذهبت. يا الله، من غيرها مستعد لأن يصرف من وقته وطاقته وجهده في الابتهال المستمر والدعاء لنا؟ من سواها يستطيع قبولي بتناقضاتي وضعفي وطباعي جيدها وسيئها؟ هل حقا أصبحت خالية من ذلك القلب؟ لم تكن فريدتي تحسن التعبير عن مشاعرها، ولا كانت من النوع الذي يوزع الأحضان والقبلات والكلمات المعسولة طوال الوقت، ولكني كنت واثقة وموقنة يقينا لا يخالجه ذرة شك بأنها تحبني وكما يقولون (ما تسمع فيا)، والآن، من يحبني هكذا؟ كانت هي البوصلة، هي المنتهى في هذه الدنيا وإن لم نقلها صريحة. يقيني بأنها تحبني دون شروط أو توقعات كان مدخلا لي لحب نفسي، وتلك كانت رحلة طويلة عمرها بعمري، صارعت حتى أحب نفسي واتقبلها، والآن، عدت لمربع الصفر.

من عساه يحبني؟ لماذا أصلا قد يتقبلني أحد؟ شعور كبير بانعدام القيمة وفقدان الأمان وبالانكشاف أمام هذا العالم الكبير. كنت أشعر بالخوف، فأنظر إليها وألمح مسبحتها ولسانها الذي يلهج بالذكر فاطمئن دون حتى أن أصرح لها، ولا حتى لنفسي. أتعلمون ذاك الشعور الذي لا تدركون وجوده حتى ينتهي ويزول بزوال سببه؟ نعم هو ذاك.كنت ولازلت كتومة ولا أفصح عن مخاوفي ولا أحب أن يحمل أحد همي، ومع الفريدة، لم أكن بحاجة للتصريح، كانت تبتهل وتلجأ إلى الله بالدعاء دائما، وكان هذا مصدر دعم وطمأنينة وسكينة، أما الآن، فمن سيرغب بفعل أي شئ من أجلي؟ من سيطمئنني؟ من سيخبرني أن مآل الأمور لخير دائما؟ من سيشعر بأنني أهل لأن يصرف وقته في الدعاء لي؟ هل هناك من هو حقا مستعد لبذل أي مجهود مهما صغر حتى أكون راضية وسعيدة؟ يا الله كم أنت كبير ورحيم بخلق قلوب الأمهات، هن الرحمة في الأرض، هن الوطن والسكينة، وقالت العرب قديما (الأم تلم)، فمن عساه يلملم شتاتنا وبعثرتنا الآن؟ أي قلب سيستوعبنا جميعنا باختلافاتنا وخلافاتنا؟ من سيذكرني بالصدقة الشهرية وإن امتعضت؟

فريدتي، هل كنت حقا مستحقة لحبك وقلبك الكبيرين؟ هل شكرت نعمة وجودك في حياتي كما ينبغي؟ هل كنت أقدرك كما تستحقين؟ أعلم أنك لم تنتظري شيئا منا يوما، أعلم هذا على وجه اليقين، فأنا أم، أعطي ولا انتظر ولا أشعر أصلا باستحقاق العطاء المقابل، وإن طلبته فلأجلهم هم حتى يتعلموا العطاء والبذل، ولكن ماذا عساني أفعل الآن دون حبك اللامحدود؟

يا الله، أنت خلقتها وأنت قبضتها وأنت من صنعتها على عينك، فارحمها واغفر لها وارحم حالنا واجبرنا وارزقنا الرضا والسكينة والعوض الجميل، فأنت ولي ذلك والقادر عليه.

هتون،

٢٠/١٢/٢٠٢٣

About Hatoon

A writer, Assistant Professor and media personnel. I always claim I am cooool but I am not, check my youtube channel Noon Al Niswa ww.youtube.com/user/NoonAlniswa

تعليق واحد »

  1. الله يرحمها و يحسن اليها، و الاجتماع بقطع قلوبنا التي دفناها قادم لا محالة و نحن على سرر متقابلين ندعى فيها بكل فاكهة امنين مطمئنين لا موت فيها و لا فراق.

    اخوكي مروان بن هلابي

    رد
  2. هتون امي توفت بعد وفاة امك باسبوع واحد فقط ،اشعر بكل حرف تكتبينه وكانك تكتبينه عني وعن مشاعر واحساسي ، الله يجبرنا يارب

    رد

أضف تعليق