خلاصة RSS

ماذا يعني رمضان بدون الفريدة

Posted on

“اللهم بلغنا رمضان لا فاقدين ولا مفقودين”

لأول مرة في حياتي التي ليست بالقصيرة اتأمل هذا الدعاء الذي كنا نردده آليا، واستوعب حجم المعاني والدلالات فيه. لا فاقدين، ولا مفقودين، يعني أن نكون معا، يعني أن نستقبل رمضان ونحن مكتملو العدد، إن لم يزد علينا مولودا نحتفل به ونراقب نموه بسعادة، ولكن ابتلانا الله سبحانه وتعالى ،لحكمة لا يعلمها إلا هو وفي مشهد متكرر يجسد سنة هذه الحياة، بنقص من الأنفس، بفقد هائل صعب يقض المضاجع، جاء رمضان ونحن فاقدون لنور عيننا وبهجة أنفسنا وروح بيتنا، والدتنا الفريدة، ولا نقول سوى الحمد لله على قضاءه وقدره.

يا الله يا فرودة، ماذا نقول وماذا نردد؟ ماذا نتذكر وماذا نسترجع؟ هل استرجع رمضاننا في طفولتنا واستقبالك له بإعداد السوبيا والتمر بالسمسم والنانخة وطاسات الزمزم المبخر؟ أتذكرين أيام كنت شغوفة بالعجين واستعدادك لقضاء وقت العصر بكامله وأنت تفردين العجين لإعداد البريك والسمبوسك الملفوف، وكنت أنا أشاركك الشغف فأعد لك الصالة بالشراشف التي ستفردين عليها العجين وأكون مسؤولة عن فرد العجين ومطه للأطراف دون أن يتمزق، وبعدها نرش الزيت بين الطبقات ونفرد اللحم في المنتصف ونكرر الطبقات. أذكر يا حبيبتي فخرك بهذا المنتج وحبك له وأذكر أيضا كيف كنت تذكرينه بشغف بعد أن توقفت تماما عن إعداده في السنوات الأخيرة بجملتك المشهورة (خلاااااااص سوينا وخلصنا، الله يخلي العجين الجاهز).

دائما كنت متجددة، فحتى حين توقفت عن عملية (رق العجين)، لم تتوقف ابتكاراتك، ففضلا عن الكلاسيكيات الرمضانية والتي تشمل سمبوسك البف والذي مهما تغير الزمن لم يتوقف مطبخك عن انتاجه، والكاسترد والجلي والذي لا تخلو من ثلاجتك، وطبعا شوربة الحب واللحوح، فقد كنت دائمة الابتكار لأصناف جديدة تعكس روحك الشابة المتطلعة دائما والتي تعشق التجربة وتتطلع للآراء المختلفة، روحك تلك التي كانت تستمد الطاقة من استمتاع أحبابك بما تعدينه وباجتماعهم دائما.

ماذا أقول لك يا حبيبتي؟ هل أخبرك بأن حليمة، عاملتك التي علمتها بنفسك وأشرفت على إعدادها لتكون شيف ماهرة، لم تتوفق أبدا في إعداد الكاسترد بالجلي؟ أتعلمين حجم الألم والفقد الذي شعرنا به حين افتقدنا هذه التفصيلة؟ وعدتك ألا أخبرك سوى بما هو مبهج، ولكن لا نخفي عليك أن رمضان صعب صعب صعب بدونك، هي ليست فقط التفاصيل، الموضوع أكبر من طبق كاسترد بالجلي لا يرقى لمستوى مطبخ الفريدة، وجودك يا حبيبتي كان هو المعنى. أنت بتفردك كنت تصنعين المعاني والمواقف دون جهد منك.

منذ طفولتي وأنا أذكر تفاصيلك في الصلاة والذكر والقرآن. كنت حتى آخر رمضان لك في الفانية، وقت التروايح تدخلين غرفتك، تخفضين الإضاءة، تفرشين سجادتك وتجهزين المصحف وتضعين أمامك جرة زمزم وترمس قهوة، وتبدأين الصلاة. في طفولتنا، لم تكن مشاركة النساء في الصلاة في المساجد أمرا دارجا، وحتى حين أصبحت تذهبين للمسجد، ظلت طقوسك في الصلاة في المنزل قائمة، وأذكر جملتك الشهيرة (أنا ما أحب الجري في المساجد، أصلي في بيتي برواقتي، والحمد لله المسجد جنبي إذا أبغى أروح)، كم مصحفا كنت تختمين؟ كثير يا فرودة كثير، كنت تختمين المصحف وراء الآخر وتجمعينا معك قبل المغرب لنقرأ دعاء ختم المصحف في مشهد نجمع في الأبناء والأحفاد ونتحلق حولك وتدعين ونؤمن، يا الله، هل أصبحنا نحن من ندعو لك بعد أن انقطع عملك؟ لا يا حبيبتي هيهات أن ينقطع، فصدقاتك الجارية موجودة، ونسأل الله أن نكون الولد الصالح الذي يدعو لك.

فرودتي الحبيبة، أعلم أنك أوصيتنا بديننا وربنا والصبر والإيمان بالقدر، أرسلت لنا هذه الرسائل، وبإذن الله نحن على العهد باقون، صابرون ومحتسبون وعلى نهجك بنشر الخير باقون. ولكن يا حبيبتي ماذا أفعل أنا بروحي التي تموت؟ ماذا أفعل بتفاؤلي وروحي المتوهجة التي تنطفأ تدريجيا دون وعي ودون رغبة مني حتى بالمقاومة؟ كيف أتقوى؟ أعلم أن الوصفة موجودة، الصبر والإيمان بالقدر والاستعانة بالله، ولكن تطبيق الوصفة أضحى تحديا كبيرا. الحياة صعبة يا فرودة، نعم صعبة، يعلم الله تعالى كم أقاوم، وبإذن الله لن استسلم، ولكني تعبت يا فرودتي من الادعاء، تعبت من دور الشخص الذي لا يكسر ولا يقهر. روحي تذوي، شعوري بعدم الجدوى يتعاظم، وإحساسي بالفقد يكبر كل يوم، أنا افتقد نفسي، وغربتي تزيد، ونعم، أفتقدك واستوحش الدنيا بدونك، ولا أقول إلا إنا لله وإنا إليه راجعون. والله راضون، ولا نسخط ولا نجزع ولا نعترض، ولكن أنا شخصيا روحي تموت وتنذوي وتنطفأ، واسأل الله أن يجمعني بنفسي ويعيدني إليها، لا فاقدة ولا مفقودة.

أنت يا روح الروح في مكان أفضل، سامحيني إن بلغك عني ما يكدرك، ولكن كما كنت دائما قوية بربك وإيمانك، أعلم أنك سترسلين لي رسالة خاصة اتقوى بها وأحاول استرجاع روحي وتفاؤلي وتوهجي وكل ما اكتسبته منك. الحمد لله دائما وأبدا، ويا رب لا تحرمنا خير ما عندك بسوء ما عندنا، وهب لنا من لدنك سلطانا مبينا.

هتون،

٥ رمضان ١٥٤٥هجرية، أول رمضان بدون الفريدة

حياتنا بعد الفريدة

Posted on

مر حوالي الأربعة أشهر على رحيل حبيبتي. أكتب ودموعي تنهمر وأشعر بأنني أشتاق لها شوقا مؤلما وصعبا، مع كل يوم يمر، يزداد الإدراك وتتضح صورة هذا العالم بدونها، دون دعواتها، دون حماسها لما تؤمن به، دون آرائها في المستجدات، دون أناقتها وجمالها، دون قلبها الكبير وحبها اللامحدود الذي قد لا يرى، ولكنه يستشعر في كل ما كان يحفنا من بركة وتوفيق.

حبيبتي، نحن بخير. سامحيني لأنني لم أكتب عنك منذ فترة. يعلم الله كم بدأت كتابة ثم توقفت، لا أدري لماذا؟ هل لأنني مترددة بمشاركة المستجدات معك؟ لا أعتقد، فأنا أعلم يقينا أنك معنا بطريقتك، لم تفارقينا لحظة، ابتعدت فقط جسديا، أما روحيا فنحن لازلنا نشعر بحرارة وجودك، ورغم أنني أعلم أنك تعلمين، ولكن دعيني أشارك معك ما حصل معنا مؤخرا.

أهم حدث، والذي كان بمثابة طبطبة حنونة على قلوبنا جميعا رغم مرارة عدم وجودك لتشاركينا تفاصيله، هو خطوبة نور عينيك، فرحتنا الأولى وفاتحة عقد الأحفاد، مهند الغالي. نعم يا حبيبتي، أتذكرين حين التفت لهديل وأنت في المستشفى وسألتها(هديل، كلمتي الأوادم؟)، نعم لقد كلمتهم وكان القبول ومن بعدها الخطوبة واحتفال قراءة الفاتحة، والآن مهند رسميا لديه خطيبة جميلة إسمها رودين. يا الله يا حبيبتي نعلم أنك كنت بانتظار هذه اللحظة، أتخيل ما كنت ستلبسين وأشم عطرك وأرى مجوهراتك وقبلهم ابتسامتك العريضة. موقنة أنا يا نور عيني أنك هناك في المكان الذي ترقيت إليه ترين ما يحصل معنا وتبتسمين مباركة. وسأقول لك أيضا أنني لم أكن موجودة، كنت في رحلة عمل وشاركتهم الحضور عن بعد. كان الشعور غريبا، نعم، كنا جميعا سعداء بهذه الخطوة، ولكن مرارة عدم وجودك أشعر بأنها شئ سيصبح ملازما لكل حدث ومناسبة، ولعلها أحد المسلمات الجديدة التي علينا التعامل معها، فلا أتخيل ألا نفتقدك في المناسبات يوما ومهما مرت السنين، أتذكرين جمال حضورك؟ وهل هكذا حضور سيكون من السهل نسيانه أو الادعاء بأنه لم يكن؟ قررت شخصيا ألا انتظر ألا تكون هناك غصة، فلتكن، وسنبتسم ونتذكرك وندعو لك، وهل نملك إلا هذا؟

هذه الأيام اتذكرك يا حبيبتي أكثر من أي وقت. كل صباح لي شريط ذكريات منهمر لا يتوقف. لا أفتأ اتذكر حين تعينت كعميد للكلية وشعوري المعتاد بالقلق، وأنت تعرفينني حق المعرفة يا حبيبتي، أنت تحفظينني عن ظهر قلب وتعلمين أن تولي المناصب بالنسبة لي ليس مناسبة للاحتفال، فأنا لا أرى فيها سوى المسؤولية وتعرفين كم الهم الذي أحمله خشية ألا أكون شخصا عادلا، حكيما، متميزا وعارفا، وكالعادة، ومع فخرك بي، قمت بتذكيري بلطف (يا بنتي، إنت ماشاء الله عليك فيك خير كثير وتحبي تساعدي الناس، أخلصي النية، صلي ركعتين قضاء حاجة وقولي يا ربي وفقني وسخرلي، وأنا أيش قاعدة هنا بأسوي غير أدعيلكم؟ والله ربي يعلم أدعيلكم واحد واحد بالإسم وأطلب من ربي، خليكي مع ربنا وأخلصي النية). وها أنا هنا يا نور عيني، أدعو الله وأرجوه أن يرزقني الصدق والإخلاص وأن يوفقني لحسن العمل ويلهمني رشدي. يا الله، لكم كنت أنسى دائما أن أدعو لنفسي. كنت دائما مطمئنة أن جبهة الدعوات مغطاة بسجادة حبيبتي. كانت، رحمها الله، صوامة قوامة بطريقة كنا أحيانا نتندر عليها. فإذا ركبت معنا في السيارة، نكون في منتصف حديث حماسي وهي منهمكة معنا، وفجأة نجدها توقفت عن الرد، ونلتفت لها لنجدها تصلي قيام الليل، فنقول لها (ماما، محد يسوي في الناس كدة، في نص الهرجة نلاقيكي الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم بتصلي، مرة ثانية لو سمحت بس خلينا ننهي الهرجة ونعطي الخلاصة)، ونفس الشئ في البيت، تتركنا وتدخل إما لتأخذ قيلولة، وهذه قد تكون الساعة العاشرة مساء، أو لتصلي، ونحن نرغي ونزبد (يا ماما والله ما يصير كدة، خلينا شوية نهرج ونتساير)، وأنا شخصيا كنت أشعر بالراحة الشديدة لصلاتها ودعائها، فأنا أعلم بأنني وأولادي لنا نصيب الأسد، فاطمئن وتستكين نفسي.

لا أملك سوى أن أقول (ماما حبيبتي وحشتيني)، لا أرغب باستباق الأحداث وتخيل رمضان من دونك، أول يوم حيث ننتظر جميعنا سفرتك العامرة والأطباق الجديدة التي ستقدمينها للتجربة، وما ينال الاستحسان سيكون له حظا باقي الأيام، هذا مع عدم المساس بالمسلمات من شوربة الحب، سمبوسك البف واللحوح، وما عدا ذلك، فكنت بتنوعك وديناميكية شخصيتك لا تقبلين أن لا يكون هناك جديد، كل هذا لن يكون يا نور عيني لأنه لا معنى له من دونك، ولكن نعدك بأن نحتفل بقدوم رمضان، وسنقوم بكل الشعائر والطقوس، فلم تحبي يوما الإغراق في الحزن، وكان ديدنك الرضا والتسليم بقضاء الله، ورغم مرارة الفقد، نعدك يا حبيبتي أن نسير على نهجك ونرضى، وعزاءنا أن لقاءنا بك حتمي بإذن الله عند مستقر رحمته.

يارب، ارحم فريدتي واعل درجاتها في عليين، يا رب بقدر شوقنا لها ارزقنا الجبر والسلوان، يا رب نشهدك بأنها كانت سليمة الصدر جميلة الحضور محبة لك ولرسولك، فاجعلها عندك راضية مرضية وبلغها عنا كل ما يسرها، فإنك ولي ذلك والقادر عليه.

هتون،

٢/٢/٢٠٢٤