خلاصة RSS

كوب القهوة الألف

حسنا، لن أبدأ بمقدمة، فلا كلام يقال. بعد كوب القهوة الألف والصباح الثلاثمائة؟ ما إذا لم يكن هناك لا صباح ولا كوب قهوة يحملان الرقم واحد؟ ماذا إذا كنت قد وصلت مرحلة تشعر فيها بأن العمر مضى والسنوات توالت ولم يعد هناك وقت حتى لصنع ذكريات وبناء رصيد؟

يقولون دائما أن لا عمر للحب والمشاعر، وأن قصتك التي لم تعشها في عشرينياتك ولا ثلاثينياتك ولا حتى أربعينياتك قد تنتظرك في أي مرحلة وستعيشها بذات الحدة وذات الرونق، حتى لو افترضنا صحة هذه النظرية، هل سيكون هناك أصلا كوب قهوة ثلاثمائة؟ هل سيكون لدينا الطاقة والرغبة مثلما كان لدينا ونحن أصغر عمرا وأندى قلبا؟ هل ستكون المشاعر ذاك الوقت كمن تأتيه الثروة بعد أن يبلغ من العمر عتيا وقد فقد الرغبة والشغف؟

هل من الأجدى والأسلم الاستسلام التام والاقتناع بأن ما لم يأتك في ربيع عمرك وأنت في قمة التوهج والانفتاح للحياة والفرص لا فائدة من انتظاره في خريفك وشتاءك؟ لماذا نستمر بخداع أنفسنا والضحك عليها؟ آلاف المقالات والنظريات التي تشرح ديناميكية العلاقات ويتحدثون عن تلك الكيمياء الساحرة التي تربط بين إثنين وكيف أنك قد تلتقي بتوأم روحك في أي وقت، كل ما عليك هو أن تكون مستعدا، لأنه حتما هناك، ثم يفاجئونك بأن الكيمياء لا تعني التوافق، وأن الارتباط له معايير أخرى لا تتضمن بالضرورة تلك المشاعر القوية التي تسلبك لبك وتفقدك تركيزك وتجعلك تشعر أن محلق في السماء. ألن نرسو على بر هنا؟ ماهو الأهم؟ أن تعيش قصتك أم أن ترتبط؟ هل من الممكن أن يكون هناك الإثنان معا؟ ماذا إذا كنت تشعر أن هذا مستحيلا؟ وأن احتمالية مقابلة توأم روحك ،الذي سيرى فيك مالم تره أنت في نفسك والذي ستشرب معه قهوتك الألف وكأنها القهوة رقم واحد، هي احتمالية صفرية، بل سالبة القيمة في أحسن تقدير، وأن عداد عمرك الذي يمضي ليس مجرد رقم كما يحبون الادعاء لتصبير أنفسهم، ولكنه دلالات على أنك تكبر وعليك الاستعداد والاستثمار في صحتك ومشوارك المهني وعلاقاتك الأسرية، أما الصباح الثلاثمئة، فاستعد لقضاءه مع نفسك وتعلم الاستمتاع بكوب القهوة الألف مع كتاب أو مسلسل، فما ليس بيدنا لن يأت أبدا بالأمنيات ولا حتى بالسعي، هو نصيب، نعم نصيب وقدر، والمحاولات البائسة نتيجتها الوحيدة هي الانكسارات المستمرة وفقدان جزء من أنفسنا، قولوا عني متشائمة، اليأس إحدى الراحتين، ومن العادي جدا أن تكون متفائلا وشغوفا ومتطلعا للحياة ولكنك لا تنتظر شيئا من أحد ولا تضحك على نفسك وتصبرها بوعود وأمنيات لا يد لك فيها.

نحن نسعى في الأرض ونعمل، وما نريده تعلمنا أن نجلبه لأنفسنا، ولكن لن نملك الاحتفاظ بمن نحب، وفقدان أمي علمني هذا كثيرا، ولن نستطيع كذلك أن نجلب شخصا لحياتنا مهما كنا منفتحين لتلك الاحتمالية، فهذا بيد الله وحده، أما كل الهراءات دون ذلك فلا طائل من ورائها سوى الإحباط، والتعايش مع هذه الحقيقة أفضل كثيرا من الغرق في الأوهام الأخرى، ودون ذلك، فالحياة تمضي و والمشوار يكتمل، وكل يستوفي قدره دون زيادة أو نقصان، وعدم الرضا بذلك لن يجلب سوى الخذلان.

هتون

صيف قائظ وعقل صاخب

لم أدون منذ فترة رغم صخب الأفكار في رأسي. وحقيقة رأسي الذي هو سبب سعادتي وسبب شقائي في ذات الوقت يحوي مخا نادرا ما يهدأ، ولعلي أحمد الله كثيرا أن علمني وهداني لأن أجعل هذا الصخب الدائم مساحة للتفكر والأفكار الجديدة، وأحاول قدر المستطاع أن ابتعد عن الأفكار الهدامة المريعة والأحكام الشنيعة التي أختص بها نفسي فقط دونا عن كل البشر، ولكنها محاولات تنتهي أحيانا بصوت داخلي لا يخدمني بتاتا وأخال لو كان لنفسي القدرة على تصوير هذه الأفكار وتجسيدها بطريقة ما ومن ثم ضربها ولكمها لفعلت، ولكن النفس الأمارة بالسوء تسترسل بعبارات (أحسن خليكي كدة، شوفي حياتك، شوفي هبلك فين وصلك، محد يحبك ومافي أحد يبغى يكون معاك)، ولا حول ولا قوة إلا بالله من هذا الرأس ذي الأفكار الغير منطقية.

كان مخططي أن أكتب عن موضوع أفكر به منذ فترة عن عمر العلاقات وكيف نكبر عليها وتنتهي أحيانا دون رغبة منا، ثم فجأة وجدت صورة فرودتي الحبيبة تحضر وتتجسد أمامي. فرودتي في حياتها لم تكن يوما متطلبة، كانت لآخر يوم في حياتها الغنية المثرية مستقلة ومعتمدة على نفسها حتى في تسليتها وانبساطها، لم تطلب يوما من أحد شيئا، وكانت دائما كما يقولون too proud to ask, ولكن تجسد لي وجهها الجميل بابتسامة خلتها معاتبة، وكأنها اشتاقت أن تقرأني، أو كأنها عرفت أن الصيف هيج مشاعرنا وأعادنا لنقطة الصفر، صيفيات فريدتي كانت تجربة متجددة كل عام وإن تشابهت الأماكن.

ماذا أقول لك يا فرودة؟ هل أخبرك عن السنة الدراسية الطويلة الغنية الحافلة بالأحداث؟ أكاد أجزم أن هذه السنة يا فرودتي كانت طويلة طولا لا يقاس بالأيام، لا أجد وحدة قياس ملائمة لما مررت به خلالها. فهل أقيسها بعدد الأيام التي افتقدتك فيها؟ أم أقيسها بحجم الانكسارات؟ أم لعلي أكون متفائلة وأقيسها بحجم الانتصارات التي حققتها والتي كانت دفعة كبيرة لي للاستمرار وإن جاءت متأخرة، أم لعلي أقيسها بحجم الفراغ في قلبي والذي خلفه غيابك مع غياب مشاعر أبت أن تستوطن أو تستقر.

كانت سنة كبيسة يا حبيبتي. أتذكرين حين اتصلت عليك لأخبرك بأني أصبحت عميدة للكلية؟ بعد تحديات كبيرة ورحلة صعود ونزول ونمو، أخبرك أنني لازلت مستمرة. لقد كبرت يا فرودة، كبرت كثيرا، تعلمت بالطرق الصعبة، واجهت مواقف لم أتخيل أن أواجهها، مررت بلحظات شعرت فيها أنني مرفوضة تماما لأسباب لا يد لي فيها، وكان شعورا مريعا يا حبيبتي. أتذكرين حين أخبرتك أنه بعد ترقيك لدار الحق بت أشعر أنه فعلا لا أحد سيحبني أو يتقبلني بعدك؟ أعادني ذاك الشعور لتلك اللحظة، لعلي كنت محظوظة أنني كنت في حالة أقوى، ونعم يا فرودة، لقد تقويت، غيابك المفاجئ كان انكسارا كبيرا وجرحا غائرا، ولكن جبار المنكسرين كان ولازال تعالى معنا، الوقت ومروره لا ينسي، ولكن يجعلنا نتعود على الغياب ووجوده دون محاولة ملئه، وهذا ما حصل.

والآن، علينا مواجهة بيتك الصيفي بدونك. يعلم الله كم هي فكرة مريعة. وحقيقة استغرب، لماذا اتهيب مواجهة بيتك الصيفي في حين أن غرفتك في بيتك العامر بمكة المكرمة كانت مصدر سكينة وسلوى؟ هل لأن البيت الصيفي ارتبط بالبهجة وبالتغيير؟ هل هذا عائد لدورك الكبير في تجميل المكان وجعله يبدو وكأنه أفضل مكان في العالم لقضاء الصيف؟ هل لأنك كنت تيسرين السبل للجميع ليأتوا ويستمتعوا فأصبح غيابك سببا كافيا لأن يفرغ المصيف تماما من معناه؟ حقيقة لا أعلم، ولعله من غير العدل فعل ذلك، لقد أحببت المكان يا فرودة وأنا واثقة من أنه لو استمر أحبابك بالمجئ واستمتعوا بوقتهم ستكونين سعيدة وراضية، عجيب أمرك يا فرودة، والله لازلت لا استوعب كيف كنت بتلك المرونة والنفسية التي ترحب بالجميع دون أي استثناء، كنت تخدمين بنفسك وتنظفين وتغسلين وتعدين مائدة إفطار شهية متكاملة في تلك البلكونة المطلة مباشرة على بحر إيجة، من عساه ينسى البيض بالسجق والزيتون الذي كنت تخللينه بنفسك والأنواع المتنوعة من الأجبان وملحقاتها، والأهم القشطة التركية مع العسل، ولتكتمل الصورة كنت حريصة على إعداد الشاي التركي وتركه يتخدر لتكون نكهته غنية وعميقة، والله لكان يكفيه أن تلمسيه بيدك المحبة ليستحيل مشروبا من الجنة وإن كان حفنة تراب، تلك كانت فرودتي، وتلك كانت معشوقتي، أعلم أنك لا تفتقدين شيئا في هذه الفانية، ولكن نحن من نفتقد وجودك، أنا من افتقد محاولاتك الكثيرة لإقناعي بأن كوشاداسي جميلة وممتعة، وأنت تعلمين يقينا أنني لا آتي في الصيف إلا لأنك هناك، وكنت تشعرين بالمسؤولية ناحيتي وكأن متعتي هي هدفك، آه يا حبي، لا أظن أن أحدا سيمنحني ذات الشعور، ليتني قدرته، من لعله يشعر أن سعادتي وانبساطي هدف له؟ من أنا أصلا ليشعر أحد حيالي بذلك؟ فقط أمي من كانت تشعر لي بذلك، الحمد لله، يا رب الرضا والتسليم دائما.

سنذهب للمصيف، وستكونين هناك مبتسمة ومرحبة بروحك التي لم تفارقنا لحظة، ساستشعرك وأدعو لك في كل خطوة، وأعلم أن الله سيهون علي ويجبرني فهو ولي ذلك والقادر عليه.

هتون