خلاصة RSS

وماذا بعد فقد الفريدة؟

Posted on

مر الآن حوالي السنة وأربعة أشهر على رحيل نور عيني. ونعم، الحياة تمضي وتستمر ولا شئ يتوقف، فبعد ذهولي واستغرابي من استمرار الحياة وحركة الكواكب والبيع والشراء والموت والميلاد حين انقضت أيام عزاء فريدتي، بعد شعوري بتجمد الكون لأيام، ورغم أني للحظة لم أنس أن هذه سنة الكون ومصير كل حي، إلا أن الإدراك بعدها بأن الحياة ستستمر ولكن بدون الفريدة كان صفعة قوية جدا، فكيف سيتشكل واقع جديد؟ هل هذا أصلا ممكن؟ هل هذا الواقع سيكون جديدا كليا أم أنه امتداد للواقع القديم ولكن بدونها؟ كم هذا الأمر معقد وعصي على الفهم.

إلا أن سنن الله نافدة، وما نظنه مستحيلا يتشكل تلقائيا بسلاسة ليذكرنا بأن الحياة ستستمر طالما لم يأمر رب الأرباب وملك الأكوان عبده إسرافيل بالنفخ في الصور، ولو كان للكون أن يتوقف ويتجمد لموت أحد، لتوقف لترقي حبيبه رسول الله ونبيه سيد الأكوان محمد ابن عبد الله للرفيق الأعلى، ولكنه تعالى خلق الموت والحياة متلازمان، ولا تستقيم هذه الحياة بدونهما، فالبقاء غريزة لتعمير الكون، والموت قدر محتوم نتقبله ونصبر عليه ولا يد لنا فيه بتاتا ويأتي حين ينتهي دور الكائن الحي في دورة الحياة. منظومة منطقية جدا ومستمرة منذ ملايين السنين، ولكن على قدر فرحنا بالميلاد، على قدر لوعتنا من الفراق، وكأنه قدر لا مفر منه للإنسان أن يقاسي هذا الألم وهذه اللوعة تمهيدا للقاء أحبته عند مستقر رحمته.

رحلة التعايش مع فراق الفريدة هي رحلة اكتشاف، ولازلت كل يوم اكتشف شيئا جديدا تشكل في نفسي بعد فراقها، ولازلت أحاول أن أفهم ماذا يعني أن يفقد الشخص أمه. لطالما تندرت على الأشخاص الذين يتسمون بالاستحقاق العالي والذين يطالبون بكل وقاحة أن يحبهم الناس كما هم دون أي تغيير أو تعديل مهما كانت شخصياتهم سيئة وطباعهم غير محتملة، وأقولها (هذه وظيفة الأم تحب عيالها وهما فيهم كل بلاوي الدنيا، لكن غير كدة، معليش محد مجبر). وماتت أمي، نعم ماتت الإنسانة الوحيدة التي كانت تحبني رغم عدم استحقاقي للحب، ماتت الوحيدة التي لم أحتج يوما لأبذل مجهودا حتى أكون عندها أثيرة ومستحقة لدعوات تنثرها علي وعلى أولادي خلال صلواتها التي لم تكن تنتهي.

وتلك صفعة أخرى بعد صفعة إدراك استمرارية الحياة بعد الفراق. من الآن فصاعدا، لا يوجد دعوات في جوف الليل من الفريدة، لن يأتيني ذاك الاتصال منها فقط لتطمئن ما إذا كنت بخير، ماتت الوحيدة التي كانت تشعر بي دون أن اتكلف عناء الحديث، ويعلم الله كم هو ثقيل علي الحديث، أصلا ما جدوى أن نكون بخير؟ طالما أن الحياة مستمرة ونحن ندور في عجلتها وننتج دون توقف، فسؤال (هل أنت بخير؟) لا معنى له، ولا معنى أصلا لافتقاد السؤال أو التوقع أنها مهمة أحد أن يطمئن علينا، أصلا كونها (مهمة) عند أحد معناها أن يتكلف العناء ليقوم بها، وبعد أمي، لا توقعات بتاتا، ولا أرغب أصلا بأن يتكبد أحد أي عناء من أجلي، فكلنا مشغولون ولدينا ما يكفينا، ولولا قلوب الأمهات لكانت هذه الدينا عصية على الاحتمال، وقدر من فقد هذا القلب أن يحمد الله أن استمتع به خلال حياته، وليس بعد الرحيل سوى التصبر وانتظار اللقاء عند مستقر رحمته بإذن الله.

فرودتي، اشتقت لك، كلنا بخير ودعك من ترهاتي وكلامي الذي أقوله، لا أريدك أن تحزني، أعلم أنك في مكانك الجميل البارد تنظرين لنا ويسؤوك إن لم نكن بخير، وإن شعرت بالخواء والوحدة وانعدام الجدوى الآن فكل ما علي هو أن اتذكرك واستحضر روحك المتوهجة التي لم تعرف اليأس والقنوت يوما، تلك الروح التي قاومت ولم تستسلم يوما، تلك التي عاشت جمية وماتت أجمل، تلك التي سيرتها العبقة لازالت حديث المجالس، حضورك كان فاخرا باذخا ورحيلك كذلك، وهل مثلك ينسى أو يغيب؟

اللهم اطو عني بعد حبيبتي واجمعني بها عند مستقر رحمتك في جنة لا وصب فيها ولا نصب.

هتون

الخميس ٦/٢/٢٠٢٥

بين الذكريات والأحلام

لا اعتبر نفسي ممن يحب دائما تكرار مشاهدة الأفلام والمسلسلات، وحتى قراءة الكتب، ودائما حجتي بأن هذا العالم ملئ بالكتب وبالإنتاجات الجديدة، فلماذا كما يقولون (اللت والعجن) في نفس الشئ وترك الجديد؟ واعترف بأن أحد أكبر مصادر شعوري بعدم المواكبة هو تصوري لكم الكتب المهول الذي ألفته البشرية والذي لم أقرأ منه ما يساوي نقطة في محيط، فكيف أحسب نفسي مع المثقفين؟ يا للهول يا هتون، سيكشف أمرك عاجلا أم آجلا ويعلمون بأنهم احتسبوك مع المثقفين وأصحاب الرأي وأنت لم تقرأي عشرات الآلاف من المؤلفات ولم تحفظي المعلقات وليست لديك القدرة على استرجاع أسماء بطلات رواية نساء صغيرات ولا سرد أسماء عواصم دول أمريكا اللاتينية ولا حتى معرفة أعلامها بدقة.

حسنا عزيزي القارئ، دعك من هتونياتي وجلدي لذاتي ولنعد لطبعي الذي لا يحب، أو يدعي أنه لا يحب تكرار المسلسلات والأفلام، ولكن هذا لا يعني أنني بريئة من ذنب التراجع عن هذا الطبع مع عدد من المسلسلات شاهدتها عدة مرات وفي كل مرة اكتشف شيئا جديدا له علاقة مباشرة بالمرحلة العمرية التي شاهدته فيها، وأذكر هنا تحديدا مسلسلين؛ “ليالي الحلمية” للعبقري الراحل أسامة أنور عكاشة، والذي قد أفرد له تدوينة منفصلة، و “Desperate Housewives” أو كما يسمونه “ربات منزل يائسات”، المسلسل الأمريكي الشهير الذي تدور أحداثه كاملة في أحد الضواحي، تحديدا شارع ويستيريا لين، وشخصياته الرئيسية هن سوزان ماير، بري فاندي كامب، لينيت سكافو وغابرييل سوليس، وراوي القصص هو صديقتهن الخامسة والتي انتحرت في أول حلقة من الموسم الأول، ماري آليس يونغ. هذا المسلسل شاهدته أول مرة في عشرينياتي، ثم عاودت مشاهدته كاملا وأنا في أربعينياتي، تحديدا الشهر الماضي.

حين شاهدته وأنا في عشرينياتي وكنت لازلت متزوجة وأبنائي لازالوا صغارا وأشعر بأن جنتي التي أرتع فيها لن تبيد أبدا، كان شعوري ناحيته منفصلا تماما عني. كنت أشاهده كما شاهدت قبلا فيلم “The Bucket List” والذي تدور قصته حول شخصين كبيرين في السن، تشعر بأن هؤلاء الأشخاص بعيدون عنك تماما، هذه قصص ومشاعر تخصهم فقط، وكيف لك أنت العشرينية التي تعيش في فيلا ولديها زوج وطفلين وخادمة وسائق ولديها أيضا عملها الذي تحبه، ما علاقتها بسيدة المنزل اليائسة التي يتركها زوجها وتبدأ في محاولات إيجاد الحب من جديد؟ ما معنى شعور الوحدة لامرأة في الثامنة والثلاثين؟ وكانت هذه شخصية سوزان ماير في أول مواسم المسلسل. حين قالت أول مرة أنها في الثامنة والثلاثين، وكانت متحرجة جدا وتتمنى أنها لم تكن كذلك، لم أفهم حقيقة الشعور وظننت أن التمرحل لا مشكلة فيه، فما معنى أن تكبر في العمر؟ بالتأكيد حين أصل لهذا العمر لن تكون لدي أي مشكلة، إنما بالعكس، سأنظر لمكتسباتي وابتسم وأقول بكل ثقة بأن هذا سني ولا أخجل منه. سوزان ماير كانت في محاولات يائسة لإيجاد حب جديد بعد أن تركها زوجها ليتزوج من سكرتيرته، وكان لديها ابنة واحدة في الثانية عشر من عمرها ذاك الوقت، وكانت فعليا تحاول باستماتة أن تلفت انتباه مايك، جارهم الجديد في الحي والذي كان يتمتع بمواصفات رجولية جذبتها جدا وجعلتها تدخل في منافسة شرسة للظفر بقلبه مع فاتنة الحي، إيدي بريت. المواقف كانت بغاية الطرافة، وداخليا كنت اتعجب، مالذي يضطرها لذلك؟ أليس لديها ابنة ومنزل؟

وتتوالى القصص مع بطلات المسلسل، وفي عشرينياتي، لم أكن أبدا استوعب معنى أن تكبر مثلا في العمر وتصبح مكانتك في العمل مهددة بمن هم أصغر منك كما حصل مع لينيت سكافو، لم أكن أعي تماما معنى أن يكبر أبنائك وتتوتر علاقتك بهم كما حصل مع بري فاندي كامب، أما غابرييل سوليس الفاتنة، فلا تخصني لا سابقا ولا لاحقا، وعلاقتها المتأرجحة في سميتها مع زوجها كانت ولازالت بالنسبة لي مثار تساؤل، هل فعلا ديناميكية العلاقة بين الزوجين هي التي تحدد الصحيح من الخاطئ في العلاقة؟ هل فعلا لا توجد حدودو واضحة بين الزوجين وأنه طالما أنهم راضون بشكل العلاقة فلا يهم كيف يراهم الآخرون؟ حقيقة لا أعلم، المهم أن المسلسل أثار شجوني وأشعرني هذه المرة بالانتماء الشديد، وفعليا، المرأة تظل مرأة مهما اختلفت الثقافات وتباعدت المسافات ومهما حاولوا ترويج أفكار معلبة عن الاستقلال والحريات، والرجل يظل رجلا يغذيه وينعشه الشعور بأنه اليد العليا في العلاقة وأنه هو المسؤول عن الإعالة وتوفير العيش الكريم لأسرته بغض النظر عن الظروف. ونعم، بدأت أتفهم لماذا كانت سوزان ماير مجهدة من الوحدة، ولماذا ظلت بري فاندي كامب في بحث مستمر عن علاقة ترضيها بعد وفاة زوجها منذ الموسم الأول رغم أنها امرأة معروف عنها بأنها محافظة وذات مكانة اجتماعية، فهمت وتعايشت واستوعبت بطريقة مختلفة تماما وبتعاطف أشعر به لأول مرة، فهذه المرة، هن يشبهنني.

ولازال مشهد مقتل مايك دولفينو في آخر مواسم المسلسل أحد أكثر المشاهد تأثيرا في كل المسلسل، ولعله في كل المسلسلات التي شاهدتها قبلا. علاقة سوزان ومايك مرت بالكثير من المنعطفات، وهو نفسه تعثر كثيرا وعانى حتى يثبت لسوزان أنه جدير بها وكان مستعدا للعمل دون توقف ليعيلها ويعيل إبنهم الصغير. في إحدى المشاهد، والتي كان يشرح فيها لصديقه معاناته مع الأزمة المالية التي يمر بها والتي اضطرتهم لعمل تغيير جذري في حياتهم، قال له “لطالما كانت سوزان تنظر لي وأنا ألاعب إبننا، كنت استرق النظر لها وأرى في عينيها الإعجاب والأمان، الآن، لا أرى هذه النظرة، أشعر أنني خذلتها وخنت ثقتها”. رغم كل الظروف، ظلت سوزان تعشق مايك، حتى قتل غدرا. وتحطمت سوزان، وأصبح عليها أداء دور الأم والأب لإبنهم الصغير الذي لم يبلغ التاسعة، وسوزان بطبعها امرأة رومانسية تحب الحب ورأيناها طوال المسلسل وهي لا تشعر بالراحة أو الاستقرار إلا إذا كانت في علاقة، وهذا كان يسبب لها المشاكل، لكن موت مايك المفاجئ وتقدمها في السن خلق منها امرأة أخرى، وحقيقة، سبب كتابتي لهذا المقال هو حوار دار بينها وبين ابنتها جولي والتي كانت تنتظر مولودا، خلال الحوار سألتها جولي ما إذا كانت متأكدة من أنها فعليا ترغب بالانتقال معها للمدينة التي تقيم فيها لتعتني بإبنها المنتظر، وما إذا كانت ترغب بالحب والارتباط لاسيما أنها لازالت جميلة وشابة نوعا ما، فأجابتها “ندرك بأننا وصلنا لمنتصف العمر حين تصبح ذكرياتنا أهم من أحلامنا، وأنا لدي كم ذكريات كبير جدا لك أنت ولشقيقك ولمايك، حب حياتي، واعتقد بأنني في هذا العمر إذا شعرت بالبرد، سألتحف بذكرياتي وأشعر بالدفئ. هل هذا يعني أنه لم يعد لدي أي جزء رومانسي ولوصغير في قلبي، أكذب إن قلت لا، أظن أنني لازلت قادرة على الشعور وعلى الحب، لكن الآن، أرغب أن أكون معك ومع إبني وذكرياتي”

هل حقا نصل لعمر تصبح فيه الذكريات أهم من الأحلام؟ هل يشيخ القلب ويجنح للتلحف بالماضي واسترجاع الذكريات بدلا من خوض التجارب الجديدة؟ ما ذا إذا لم يكن هناك ذكريات؟ ماذا إذا لم يعش الشخص قصته؟ هل عليه في منتصف عمره أن يتوقف عن المحاولة؟ هل هناك أصلا وقت لخلق ذكريات جديدة بعد أن يمضي العمر؟ هل لازال أصلا في العمر متسع؟

عموما، المسلسل يعرض على Disney Plus، وقد أحرقت عليكم نهاية قصة سوزان ومايك، فحظا أوفر في المرات القادمة.

هتون،

١/٢/٢٠٢٥