خلاصة RSS

أيامنا بعد الفريدة (٢)

حقيقة لا أعلم لم أصبحت عندي عادة عد الأيام بعد رحيل الفريدة. هل هو الثقل؟ هل هو شعور بأن هذا العد قد يعد ببعض السلوى؟ لم أعد في حالة صدمة، هذه الحالة انتهت، ما أمر به الآن غريب ويختلف من يوم ليوم. الثابت أنه لازال، وبعد مرور ثمانية عشرة يوما على الرحيل، استرجع كل الشريط لحظة استيقاظي من النوم صباحا، ولوهلة يخال لي أنه حلم، فاستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وأعود لعقلي الذي بدأ يتعايش مع فكرة الحياة بدونها. نعم، الأيام تمر، ونحن لازلنا نعيش، ولو كتب الخلود لأحد لكتبه الله لأنبيائه، ولكن لعل أهم مفهوم للتصالح مع فكرة الموت هو أن لا ننتظر من الكون أن يعود كما كان، هذا لن يحدث، هناك حياة وكون جديدين الآن وعلينا التعامل معها.

أشعر أنني أرغب بالحديث عنها طوال الوقت. لازالت كلمة (ماما الله يرحمها) ثقيلة جدا ودلالاتها حاسمة وحتمية، ولكن يا للحب في سيرتها. هل أعد يا فريدتي عدد العمرات اللي قام بها محبوك وأهدوك أجرها؟ هل نعد عدد ختمات المصحف الشريف والتي يبدأها وينهيها أشخاص لا نعرف حتى أنهم يعرفونك، لا أن يبكونك ويختمون لك المصاحف ويقيمون لك الصدقات الجارية؟ لم استغرب؟ ألم تكوني أنت أول من يعتمر للميتين؟ أنت حمامة الحرم المعروفة بمشاغباتك الدائمة لمحاولاتك الوصول لأقرب نقطة عند الكعبة، والتي لاترسم عند أمن الحرم سوى البسمات وتوصيتهم لبعض أن يدعوكي لصلاتك وابتهالاتك؟ أبشرك يا حبيبة القلب أن محبينك أوفياء، يذكرونك ويعتمرون ويتصدقون لك ولا يتحدثون عنك سوى بكل الحب.

هل أخبرك يا فريدتي عن نوادر وغرائب حصلت أيام وفاتك؟ هل أخبرك عن من تلقى خبر ترقيك وصدم ولم يتمكن من الحديث، وحين سأله من حوله (مين مات؟؟؟ الوالد؟ الوالدة؟) سكت ولم يعرف كيف يجيب. حاول أن يسترجع القرابة فوجدها ليست فقط بعيدة، لكنها لا تذكر، فلم يجد أقرب من جواب (أمي بالرضاعة) فقط ليبرر لمن حوله صدمته وحزنه لإنسانة تعني له الكثير. هل أخبرك عن كل من اعتبروك أمهم، شقيقتهم، حبيبتهم وأختهم فشعرنا نحن بناتك بالرغبة بالقيام من أماكننا وإجلاسهم مكاننا ليتلقوا فيك العزاء؟ هل أخبرك عن السهالات والبشارات على كل نطاق؟ هل تتخيلين أن غرفتك حيث رائحتك وأشيائك وبدل أن تكون محفزا للحزن كانت مصدرا للسكينة؟

ماذا أقول يا حبيبتي أكثر من أنني اشتقت لك. نعم، عدت لممارسة عملي بعد أيام عزاءك مباشرة، تذكرتك كيف كنت خلال ثالث أيام عزاء شقيقك الحبيب عبد الجليل حين قمت بتوزيع الحلوى الفاخرة لأن الله سبحانه أراك مناما جميلا ومبشرا له، هذا أنت، متفائلة صابرة محتسبة راضية ولا تحبين أن تتوقف الحياة، فعلت ذلك تأسيا بك رغم خوار قواي وتمزق قلبي.أتعلمين ماذا أيضا؟ رجلي التي كسرت خلال الأيام القلائل التي كنت فيها في المستشفى لاتزال في الجبيرة، أتذكرين حين دخلت عليك في المستشفى على كرسي متحرك ونظرت لك وقلت (الصراحة يا فرودة، ما اتحملت انك تاخدي كل الأضواء، قلت أنافسك)، ابتسمت ابتسامة خفيفة وأوصيتيهم أن يقوموا بالاهتمام بي، مما جعلنا كلنا ندخل في حوار طريف عن سوء توقيتي وكيف وأنه عقابا لي، سيقوموا بتوجيه الكرسي الذي أجلس عليه للجدار حتى أراجع نفسي وأتوقف عن الوقوع وافتعال الحوادث في الأوقات الحساسة. لازلت أراجع نفسي يا حبيبتي وأذكر كل وصاياكي وأحاول أن أكون أفضل، أريدك أن تكوني فخورة بي.

حسنا، لن أخبرك عن ماذا يحدث في غزة، لقد أنعم الله عليك بالترقي لمكان أفضل، مكان لا توجد فيه كل هذه البشاعات، أنت في دار لا مكان فيها إلا للحق، أنت حيث العدل لا في دنيا نرى فيها الظلم واستقواء الباطل. سأعود أن للفانية واستودعك عند من لا تخيب ودائعه، وأعود وأرجوك أن تزورينا في المنام، هاقد مرت الأيام وأخالك قابلت أحبابك ممن سبقوكي لدار الحق، فأنعمي على من لازالوا في الفانية بشئ منك يسري قلوبهم، وكلنا بإذن الله بخير.

هتون،

٣٠/١٠/٢٠٢٣

أيامنا بعد الفريدة

ترقت فريدتي لدار الحق قبل تسعة أيام. وحقيقة، للآن لم استوعب تماما معنى أنها كانت هناك ملئ العين وفجأة أصبحت ذكرى. كنت دائما أسمع عن هذا الفراغ ولطالما قلت لنفسي بأنني شخص قادر على التعاطف ومحاكاة مشاعر الآخرين، لكن هذا مختلف، لم أكن أعلم أو اتصور أو أتخيل ماذا يعني أن يكون أحد أهم الأشخاص في حياتك، شخص لم يمهلك أو يحذرك قبل رحيله، فجأة يصبح ذكرى.

أعلم أن الموت والحياة متلازمان. نعم، أفهم تماما هذه الفلسفة، وعندي إيمان ويقين عميقين بأن هذه نهاية كل حي عداه سبحانه، وأنها سنة الكون، موت وحياة، والبشرى للصابرين. ولكن، هل اعتيادية الموت وكونه سنة كونية يقلل من هول مصابه؟ هل لأن تجربة الفقد تجربة مشتركة بين كل البشرية ولا يكاد أحد نعرفه أو لا نعرفه إلا وقد مر بها، هل هذا سيقلل من هولها؟ ألا نفرح لميلاد كل طفل جديد في العائلة؟ أو ليست تجربة الميلاد أيضا اعتيادية؟ لماذا اعتيادية الأمر لا يصاحبه اعتيادية في الشعور؟ حكمتك يا الله أن جعلت مصيبة الموت كما أسميتها في كتابك العزيز من أكثر التجارب الإنسانية قوة في المشاعر. تشعر فيها أن قلبك سيتمزق، وأن هذا الفراغ الذي تركه حبيبك لن يملأه شئ، وهي حقيقة وليست مجرد شعور. ولطالما تسائلت، بما أننا مملوكون له تعالى، أو لم يكن من الممكن أن يكون الموت شيئا عاديا لا يصحبه كل هذا الألم؟ كل الفقد يصحبه ولع وألم مهما كان نوعه، هل لأننا مجبولون كبشر على حب التملك؟ هل من الممكن أن تكون التجربة أقل ألما إذا فكرنا بها بطريقة مختلفة؟ لا أظن، لعلها حكمة الله أن نصبر ونؤجر ونتذكر أيامه سبحانه ونسلم أكثر بمحدودية وقتنا في هذه الدنيا، فيا لجمال إنا لله وإنا إليه راجعون، ففيها اختصار لسر ومعنى الحياة، كلنا منه، وله تعالى نعود.

ماذا عن صندوق الذكريات الفريد الذي خلفته الفريدة؟ أيام ومواقف وأحاديث وصور. أشخاص مرت بهم بخفة ورشاقة ولكن تركت أثرها فيهم بنعومة شديدة وهدوء أشد. ماذا عن من شكلتهم وصنعتهم؟ نحن بناتها وإبنها. أتذكر كيف كنت فترة مراهقتي (ونعم، كنت مراهقة بغيضة أكاد أجزم بأنني لو كنت ابنتي لعرضتني للتبني) عنيفة عالية الصوت وأحاول فرض سيطرتي على إخوتي، وكانت فريدتي تحار كيف تتعامل معي، لم تكن تعلم بأن كل ما كنت أحتاجه منها هو لفت انتباهها. لطالما نظرت لها كشئ جميل وبهي لا أستحق أن أنتمي إليه، لطالما بهرني جمالها وبهاءها ولم أكن أجد طريقة للفت انتباهها ولو لعقابي سوى بافتعال المشاكل. والغريب في ذاك الوقت أنني كنت أميل كثيرا للتدين، فكنت أصوم الاثنين والخميس وأصلي النوافل جميعها وفي رمضان أصلي التراويح والتهجد، وحين أنجبت وانشغلت بعملي وأولادي، قلت عباداتي الظاهرة، وفي المقابل تحسنت أخلاقي تحسنا كبيرا وكله تأثرا بها وبوالدي الحبيب حفظه الله، عاتبتني يوما قائلة (يا بنتي، تتذكري لما كنت زمان ماشاء الله تصلي النوافل وتحرصي عليها، اشبك الله يهديكي؟ الزمي أقل شي ركعتين كل يوم بعد العشا مع الوتر، والله إنها كنز وشوفي حياتك كيف حتتحسن) فكنت أشاكسها ضاحكة (يعني يا ماما، تبغيني أرجع مراهقة الله لا يسلطني على مسلم وأمارس العنف في البيت وأروح أصلي نوافل، ولا شوفيني دحين زي الحمل الوديع واتقرب من الله بأشياء ثانية؟) فتضحك الفريدة وأعدها أنا وأعد نفسي بأن أعاود الالتزام لأنني فعليا بحاجة لشحنات روحية تهون علي مسؤوليات الحياة، والتي كانت كلها تهون بوجودها ودعواتها.

يا حبيبتي يا أمي، أشهده تعالى أن أي خلق كريم فينا تخلقناه منك، أنت الذكارة الشكارة الصوامة قوامة الليل، البهية صاحبة الحضور محبوبة الجميع، يا صاحبة أنقى قلب وأطهر سريرة، استودعناك عند من لا تعزين عليه، فيا رب لا تفتنا بعد الفريدة ولا تحرمنا أجرها.

هتون