خلاصة RSS

Category Archives: المقالات

بين الذكريات والأحلام

لا اعتبر نفسي ممن يحب دائما تكرار مشاهدة الأفلام والمسلسلات، وحتى قراءة الكتب، ودائما حجتي بأن هذا العالم ملئ بالكتب وبالإنتاجات الجديدة، فلماذا كما يقولون (اللت والعجن) في نفس الشئ وترك الجديد؟ واعترف بأن أحد أكبر مصادر شعوري بعدم المواكبة هو تصوري لكم الكتب المهول الذي ألفته البشرية والذي لم أقرأ منه ما يساوي نقطة في محيط، فكيف أحسب نفسي مع المثقفين؟ يا للهول يا هتون، سيكشف أمرك عاجلا أم آجلا ويعلمون بأنهم احتسبوك مع المثقفين وأصحاب الرأي وأنت لم تقرأي عشرات الآلاف من المؤلفات ولم تحفظي المعلقات وليست لديك القدرة على استرجاع أسماء بطلات رواية نساء صغيرات ولا سرد أسماء عواصم دول أمريكا اللاتينية ولا حتى معرفة أعلامها بدقة.

حسنا عزيزي القارئ، دعك من هتونياتي وجلدي لذاتي ولنعد لطبعي الذي لا يحب، أو يدعي أنه لا يحب تكرار المسلسلات والأفلام، ولكن هذا لا يعني أنني بريئة من ذنب التراجع عن هذا الطبع مع عدد من المسلسلات شاهدتها عدة مرات وفي كل مرة اكتشف شيئا جديدا له علاقة مباشرة بالمرحلة العمرية التي شاهدته فيها، وأذكر هنا تحديدا مسلسلين؛ “ليالي الحلمية” للعبقري الراحل أسامة أنور عكاشة، والذي قد أفرد له تدوينة منفصلة، و “Desperate Housewives” أو كما يسمونه “ربات منزل يائسات”، المسلسل الأمريكي الشهير الذي تدور أحداثه كاملة في أحد الضواحي، تحديدا شارع ويستيريا لين، وشخصياته الرئيسية هن سوزان ماير، بري فاندي كامب، لينيت سكافو وغابرييل سوليس، وراوي القصص هو صديقتهن الخامسة والتي انتحرت في أول حلقة من الموسم الأول، ماري آليس يونغ. هذا المسلسل شاهدته أول مرة في عشرينياتي، ثم عاودت مشاهدته كاملا وأنا في أربعينياتي، تحديدا الشهر الماضي.

حين شاهدته وأنا في عشرينياتي وكنت لازلت متزوجة وأبنائي لازالوا صغارا وأشعر بأن جنتي التي أرتع فيها لن تبيد أبدا، كان شعوري ناحيته منفصلا تماما عني. كنت أشاهده كما شاهدت قبلا فيلم “The Bucket List” والذي تدور قصته حول شخصين كبيرين في السن، تشعر بأن هؤلاء الأشخاص بعيدون عنك تماما، هذه قصص ومشاعر تخصهم فقط، وكيف لك أنت العشرينية التي تعيش في فيلا ولديها زوج وطفلين وخادمة وسائق ولديها أيضا عملها الذي تحبه، ما علاقتها بسيدة المنزل اليائسة التي يتركها زوجها وتبدأ في محاولات إيجاد الحب من جديد؟ ما معنى شعور الوحدة لامرأة في الثامنة والثلاثين؟ وكانت هذه شخصية سوزان ماير في أول مواسم المسلسل. حين قالت أول مرة أنها في الثامنة والثلاثين، وكانت متحرجة جدا وتتمنى أنها لم تكن كذلك، لم أفهم حقيقة الشعور وظننت أن التمرحل لا مشكلة فيه، فما معنى أن تكبر في العمر؟ بالتأكيد حين أصل لهذا العمر لن تكون لدي أي مشكلة، إنما بالعكس، سأنظر لمكتسباتي وابتسم وأقول بكل ثقة بأن هذا سني ولا أخجل منه. سوزان ماير كانت في محاولات يائسة لإيجاد حب جديد بعد أن تركها زوجها ليتزوج من سكرتيرته، وكان لديها ابنة واحدة في الثانية عشر من عمرها ذاك الوقت، وكانت فعليا تحاول باستماتة أن تلفت انتباه مايك، جارهم الجديد في الحي والذي كان يتمتع بمواصفات رجولية جذبتها جدا وجعلتها تدخل في منافسة شرسة للظفر بقلبه مع فاتنة الحي، إيدي بريت. المواقف كانت بغاية الطرافة، وداخليا كنت اتعجب، مالذي يضطرها لذلك؟ أليس لديها ابنة ومنزل؟

وتتوالى القصص مع بطلات المسلسل، وفي عشرينياتي، لم أكن أبدا استوعب معنى أن تكبر مثلا في العمر وتصبح مكانتك في العمل مهددة بمن هم أصغر منك كما حصل مع لينيت سكافو، لم أكن أعي تماما معنى أن يكبر أبنائك وتتوتر علاقتك بهم كما حصل مع بري فاندي كامب، أما غابرييل سوليس الفاتنة، فلا تخصني لا سابقا ولا لاحقا، وعلاقتها المتأرجحة في سميتها مع زوجها كانت ولازالت بالنسبة لي مثار تساؤل، هل فعلا ديناميكية العلاقة بين الزوجين هي التي تحدد الصحيح من الخاطئ في العلاقة؟ هل فعلا لا توجد حدودو واضحة بين الزوجين وأنه طالما أنهم راضون بشكل العلاقة فلا يهم كيف يراهم الآخرون؟ حقيقة لا أعلم، المهم أن المسلسل أثار شجوني وأشعرني هذه المرة بالانتماء الشديد، وفعليا، المرأة تظل مرأة مهما اختلفت الثقافات وتباعدت المسافات ومهما حاولوا ترويج أفكار معلبة عن الاستقلال والحريات، والرجل يظل رجلا يغذيه وينعشه الشعور بأنه اليد العليا في العلاقة وأنه هو المسؤول عن الإعالة وتوفير العيش الكريم لأسرته بغض النظر عن الظروف. ونعم، بدأت أتفهم لماذا كانت سوزان ماير مجهدة من الوحدة، ولماذا ظلت بري فاندي كامب في بحث مستمر عن علاقة ترضيها بعد وفاة زوجها منذ الموسم الأول رغم أنها امرأة معروف عنها بأنها محافظة وذات مكانة اجتماعية، فهمت وتعايشت واستوعبت بطريقة مختلفة تماما وبتعاطف أشعر به لأول مرة، فهذه المرة، هن يشبهنني.

ولازال مشهد مقتل مايك دولفينو في آخر مواسم المسلسل أحد أكثر المشاهد تأثيرا في كل المسلسل، ولعله في كل المسلسلات التي شاهدتها قبلا. علاقة سوزان ومايك مرت بالكثير من المنعطفات، وهو نفسه تعثر كثيرا وعانى حتى يثبت لسوزان أنه جدير بها وكان مستعدا للعمل دون توقف ليعيلها ويعيل إبنهم الصغير. في إحدى المشاهد، والتي كان يشرح فيها لصديقه معاناته مع الأزمة المالية التي يمر بها والتي اضطرتهم لعمل تغيير جذري في حياتهم، قال له “لطالما كانت سوزان تنظر لي وأنا ألاعب إبننا، كنت استرق النظر لها وأرى في عينيها الإعجاب والأمان، الآن، لا أرى هذه النظرة، أشعر أنني خذلتها وخنت ثقتها”. رغم كل الظروف، ظلت سوزان تعشق مايك، حتى قتل غدرا. وتحطمت سوزان، وأصبح عليها أداء دور الأم والأب لإبنهم الصغير الذي لم يبلغ التاسعة، وسوزان بطبعها امرأة رومانسية تحب الحب ورأيناها طوال المسلسل وهي لا تشعر بالراحة أو الاستقرار إلا إذا كانت في علاقة، وهذا كان يسبب لها المشاكل، لكن موت مايك المفاجئ وتقدمها في السن خلق منها امرأة أخرى، وحقيقة، سبب كتابتي لهذا المقال هو حوار دار بينها وبين ابنتها جولي والتي كانت تنتظر مولودا، خلال الحوار سألتها جولي ما إذا كانت متأكدة من أنها فعليا ترغب بالانتقال معها للمدينة التي تقيم فيها لتعتني بإبنها المنتظر، وما إذا كانت ترغب بالحب والارتباط لاسيما أنها لازالت جميلة وشابة نوعا ما، فأجابتها “ندرك بأننا وصلنا لمنتصف العمر حين تصبح ذكرياتنا أهم من أحلامنا، وأنا لدي كم ذكريات كبير جدا لك أنت ولشقيقك ولمايك، حب حياتي، واعتقد بأنني في هذا العمر إذا شعرت بالبرد، سألتحف بذكرياتي وأشعر بالدفئ. هل هذا يعني أنه لم يعد لدي أي جزء رومانسي ولوصغير في قلبي، أكذب إن قلت لا، أظن أنني لازلت قادرة على الشعور وعلى الحب، لكن الآن، أرغب أن أكون معك ومع إبني وذكرياتي”

هل حقا نصل لعمر تصبح فيه الذكريات أهم من الأحلام؟ هل يشيخ القلب ويجنح للتلحف بالماضي واسترجاع الذكريات بدلا من خوض التجارب الجديدة؟ ما ذا إذا لم يكن هناك ذكريات؟ ماذا إذا لم يعش الشخص قصته؟ هل عليه في منتصف عمره أن يتوقف عن المحاولة؟ هل هناك أصلا وقت لخلق ذكريات جديدة بعد أن يمضي العمر؟ هل لازال أصلا في العمر متسع؟

عموما، المسلسل يعرض على Disney Plus، وقد أحرقت عليكم نهاية قصة سوزان ومايك، فحظا أوفر في المرات القادمة.

هتون،

١/٢/٢٠٢٥

الأمل الذي يحيي أم الخيبة التي تقتل؟

هذه إحدى المرات القليلة التي ابدأ فيها مقالا أو قصة بكتابة العنوان أولا، ولا أخفيكم أنني شعرت بمدى دراماتيكيته وتقليديته، لدرجة أنني قلت لعلي أغيره ل(هتون بين مطرقة الحقيقة وسندان الأمل)، وحقيقة لم لا؟ ألست تلك الأكاديمية والأستاذة الجامعية والتي من المحتم عليها أن تستخدم المطارق والسنادين والواقع والمأمول حتى تثبت ثقافتها ومواكبتها وكم المفردات الزاخر الفاخر الذي لديها؟

دعكم من كل هذا، الحقيقة، المجردة والصرفة دون أي محاولات للفزلكة، هي أنني استلهمت موضوع المقال كله من مسلسل شاهدته على نتفلكس. والحقيقة الأخرى هي أنني شاهدته نظرا لمروري بفراغ مسلسلي، وهي إحدى تلك الحالات التي تنتاب الإنسان حين ينتهي من مشاهدة مسلسل جيد ويجد نفسه فارغا تماما دون أي عمل فني يستمتع بمشاهدته بعد يوم طويل من العمل الذي لا ينتهي. أتعلمون تلك الحالة التي تجعلكم تتطلعون للعودة لكنبتكم المفضلة حتى تتابعوا المسلسل الشيق الذي شدتكم أحداثه؟ لا أحب أبدا انتهاء هذه الحالة، وأجد نفسي أحيانا مضطرة لتجربة أي مسلسل عشوائي لعلي أجد فيه ضالتي، ولم أجدها في هذا المسلسل أبدا، ولكن عزائي أنه كان مسلسلا قصيرا من ست حلقات، وتم تصويره بالكامل في ساحل أمالفي الإيطالي، فأكملت المشاهدة بنية التغذية البصرية والتي لم يبخل بها المسلسل أبدا.

قصة المسلسل الأساسية هي وقوع امرأة في الستين من عمرها في حب شاب يبلغ نصف عمرها، ونظرا لكونها وريثة لفندق مطل على ساحل أمالفي، فهذا جعل أولادها (تركبهم كل العفاريت بدرجات متفاوتة) نظرا لقناعتهم بأن هذا الشاب لا بد أن وراءه مصائب وكوارث وأنه من المستحيل أن يحب شاب وسيم امرأة ستينية، لابد أن المال هو السبب الرئيس لهذا الانجذاب. قصة كلاسيكية معروفة وصراعات لا جديد فيها، المختلف الوحيد في هذا المسلسل هو النهاية، واحذركم بأن هنا حرق لمن أراد مشاهدة المسلسل الذي لم أذكر رسمه، حيث أنه رغم اكتشاف المرأة لكل خفايا الشاب المظلمة وماضيه الغير مشرف وأن جزء من علاقته به كانت لأجل المال رغم أنه فعليا أحبها وتعلق بها، إلا أنها قررت وبكامل إرادتها أن تمضي قدما في العلاقة التي أنعشت قلبها وجعلت روحها تزهر وأذاقتها سعادة واكتفاء لم تشعر بهم منذ أن انفصلت عن زوجها والذي خانها مع أعز صديقاتها، وكانت آخر جملة في المسلسل هي مقولة لكاتب إيطالي ترجمتها للعربية “الخدعة التي تهب الحياة، أفضل من الموت بسبب خيبة الأمل”.

ولم أتمكن من تجاوز العبارة.

أفهم جدا أن الشخص بسيط الفهم سطحي الإدراك قد يسعد بالخدعة لأنه فعليا يصدقها، فليس الجميع على نفس الدرجة من الوعي والذكاء بحيث يفرقون ما بين الحقيقة والوهم، ولعلها قسمة الحق أن هناك أناس يتمتعون براحة البال رغم بساطة ورقة حالهم، فلا مشكلة لديهم بعيش الوهم وتصديقه والشعور بالسعادة بمقتضاه. أما من أنعم الله عليه (أو ابتلاه) بالوعي والواقعية وإمكانية رؤية واستشفاف أبعاد الأمور من عدة زوايا، كيف بالله عليكم سيرضى بالخديعة وإن وهبته الحياة؟ هل يستطيع الإنسان العاقل أن يستمتع بالخديعة؟ أم لعله لا يستمتع بها ولكن يدرب نفسه على الاستمتاع بتبعاتها مع العلم الكامل أنها خديعة؟ فمثلا تلك الزوجة التي تعلم يقينا أن زوجها متزوج بامرأة أخرى ولكن تدعي عدم المعرفة حتى تستمتع بمكتسبات إبقاء زواجه الآخر في الخفاء، فلا حقوق واضحة للزوجة الثانية ولا واجبات أسرية مترتبة على ذلك. أو لعله ذاك الموظف الذي يعلم بما لا يدع مجالا للشك أن مديره لا يحبه ولا يستسيغ العمل معه، ولكنه يقرر أن لا يبدي أي ردة فعل ناحيته حتى لا يصبح العداء واضحا ويخسر مكتسبات وظيفته. أو لعلها فعلا تلك السيدة في المسلسل والتي برغم إدراكها للحقيقة، قررت أن تتمسك بالخديعة التي وهبتها الحياة حتى لا تموت من الخيبة.

هل العاقل حقا هو الذي يجير الأمور لمصلحته حتى وإن ظهر أمام الآخرين بمظهر الشخص المغفل؟ هل فعليا مقولة “إنما السيد المتغابي” صحيحة ودقيقة؟ إذا كان العاقل يكيف الأمور القدرية التي تحصل له ويقلبها لصالحه، ولكن هل يقبل هذا العاقل أن ينجرف بكامل قواه العقلية ويذهب بقدميه لوضع فيه خديعة فقط لأنها منحته الأمل والحياة؟

دائما ما يوصف العاقلون والواقعيوون بأنهم قاتلون للمتعة، وذلك لأنهم لا يفتأون عن قول الحقيقة حتى لمن لا يريدها وأولهم أنفسهم، فتجدهم يحرمون أنفسهم من الكثير من المتع اللحظية والمغامرات لإدراكهم التام أنها ليست حقيقية وأنهم سيتحملون التبعات كاملة، ولكن، أليس هناك منطقة وسطى؟ مذا إذا كان الشخص مستعدا لتحمل التبعات؟ فهاهو الشخص ينجرف في علاقة حب نهايتها واضحة جدا، وحين تخبره بذلك يبتسم ويقول (والله عارف ومستعد اتحمل، لكن أحبها والله ما أتركها الآن)، هل هذا شخص سعيد أم غبي؟ وما هو الأهم في الأساس، أن نكون سعداء يرانا الآخرون أغبياء أم تعساء ويربتون على أكتافنا ويمدحون ذكاءنا؟

لعلها اختيارات، كما هي غالبية أمور الحياة، وها هي تمضي.

هتون

٢٨/١/٢٠٢٥