خلاصة RSS

Category Archives: المقالات

البوصلة والميزان

اعترف بأنني لازلت أعاني من رهاب كلمة الميزان. لطالما كان هذا الجهاز هو هادم اللذات بالنسبة لي. كانت أمي الحبيبة رحمها الله دائمة الاستخدام لهذه الآلة البغيضة وكانت تحثني باستمرار على مراقبة الرقم فيه حتى لا تفلت الأمور من يدي، والحمد لله منذ طفولتي وحتى الآن وعلاقتي معه مضطربة ولا تحظى بأي نوع من أنواع الثقة، فالرقم إن لم يعجبني فهو ذنب الميزان الذي لا يفرق بين الدهون والعضلات ولا يحسب حساب المواقيت ولا ثقل الثياب. أصلا أنا شخص لا يحب الأرقام لأنها لم تخدمني يوما في أي منحى من مناحي حياتي، فأنا لا أحب رقم عمري ولا حسابي البنكي ولا رقم شارع بيتنا ولا أرقام مشاهداتي على أي منصة تواصل اجتماعي 😅، ومن يقول أن لغة الأرقام لا تكذب فأناطحه بالحجة بأن الأرقام المجردة هي مجرد أرقام لا معنى لها، وأن كل الكذب يحصل في تفسيرها وتحميلها ما لا تحتمل وتطويعها لتقول رسالة قد تكون مضللة.

إذن نعم، أنا لا أحب الميزان الذي يعامل الإنسان ككتلة مجردة لا فرق بينها وبين اللحوم والخضار في السوبرماركت، ولكني أكن احتراما كبير للميزان ذي الكفتين وكل ما يحمله من دلالات. فالميزان المتكافئ هو دلالة على العدل وعدم الكيل بمكيالين، والغش في هذا الميزان له دلالات لا يختلف عليها اثنان، ولا مرجعية أقوم من مرجعيته تعالى حين قال في كتابه الحكيم “وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ”، وهنا المكيال واضح والمقاييس لا شك فيها ولا ظن، تعالى سبحانه عن كل ذلك. وحقيقة أجد نفسي وأنا في خضم كل ما أمر به من ضغوطات وصعوبات أحتاج وبشدة للوزن النفسي والروحي الحق والبوصلة التي تدلني وتهديني. ووجدت بأنني ولله الحمد ومع تراكم الخبرة والتعود على أمور معينة والتعامل معها كأمور لا مناط من التعامل معها، بالإضافة للكثير من حسن التربية وكوني محظوظة بأني محاطة بعائلة فيها الكثير من القدوات الحسنة، كونت طرقا معينة لضبط الميزان وإعادة توجيه البوصلة كلما تكالبت عليا الأمور وامتحنت في قيمي. نعم، مررت ولازلت أمر بفترات صعبة تجعلني أتسائل وباستمرار عن جدوى ما أفعله وهل فعلا ما أمر به يستحق كل هذا الضغط؟ ما هو المهم وما هو الأهم؟ كيف في وسط المشاكل سأستطيع التفرقة بين الإشارات والضجيج؟ كيف أتخذ القرار الصحيح في الوقت المثالي؟ متى أرفض ومتى أقبل وما هي الحدود التي تحتم ذلك؟ ما هو الحد الفاصل بين الهروب وبين أخذ مساحة للتفكر؟ كل هذه التساؤلات أعتقد بأنا ستظل مستمرة، وكل ما أحتاج إليه هو بعض العادات التي تساعد على ضبط البوصلة وتعديل الميزان، ووجدت بأن بعض عاداتي الأصيلة وبعض المستحدثة تساعدني كثيرا في هذه الرحلة، سأسرد بعضها من باب المشاركة، قد تجدوا بعضها غارقا في “الهتونية”، ولا مرجعية له سوى تجربتي الشخصية التي تحكمها ظروفي الخاصة، فلو شعرتم أنني اتفلسف فلا داعي لأن تخبروني بذلك، اسمحوا لي بالتفلسف والمشاركة ولا تدرون فلعل الجانب المجنون مني ،والذي هو بالمناسبة جانب أصيل ويتعايش تعايشا كاملا مع جانبي شديد العقلانية، قد تجدون منه حكمة من باب “خذوا الحكمة من أفواه المجانين”. إليكم بعض ما أفعله واستشعره لتعديل ميزاني وتوجيه بوصلتي:

عيش اللحظة واستشعار المعتاد

حسنا، قد تكونوا سمعتم بأهمية عيش اللحظة والانغماس في التفاصيل الصغيرة التي تجلب السلام والسعادة، ولكن هل فعلا من السهل فعل ذلك؟ هل من الطبيعي أن يقدر الشخص طبقه المفضل في كل مرة يأكل فيه؟ هل كل البشر سيتمكنون من تقدير جمال نبتة البامبو المجاورة لمدخل المنزل في كل مرة يمرون بها؟ هذه العادة تحتاح لحضور ذهني وتذكير مستمر للنفس. وأنا شخصيا ولأحافظ على سلامي الداخلي ولا أغرق في المشاكل وتذكر ما ينقصني، علمت نفسي أن استشعر كل جميل حولي، والأهم من هذا، أحرص على أن يكون محيطي جميلا ومبهجا ومنعشا للحواس. فبيتي مثلا كنت ولازلت حريصة أن يكون مليئا بالنباتات الطبيعية، ولأني أحب الطبخ، فقد صرفت مبلغا قد يعتبره البعض غير معقول لأجلب لنفسي مطبخا ألمانيا جميلا وعالي الجودة خصوصا وأن المطبخ مفتوح على باقي المنزل، ومروري به خلال اليوم يحتم أن يكون دائما نظيفا وجميلا ومرتبا، وحرصت أن تكون الاكسسوارات الظاهرة جميلة وبهيجة الألوان، ولا مشكلة لدي في إنفاق المال على مواعين طبخ واكسسوارات قد يرى الآخرون أنه من الأجدى لو “اشتريتي لنفسك قطعة دهب بدل الجنان دا، مطبخ وأدوات طبخ؟ مجنونة إنت؟”، إذا كان هذا هو الجنون فلا مشكلة لدي حقا، وردي دائما “كل واحد يصرف في اللي يشوفه يستاهل”، وهذا لا يتعارض أصلا مع كوني شخص عاقل ماليا ونادرا ما أكلف نفسي فوق وسعها ماديا، ولكن لي عقليتي الخاصة في هذا، والأهم أن أصرف مالي الذي كسبته بتسخير الله وتعبي في ما يفيدني ويدخل البهجة على قلبي، لذلك تفاصيل بيتي جميعها أحبها وتجلب لي السلام، وكل مرة أجلس فيها على كنبتي أشعر كم أنا محظوظة أن لدي كنبة مريحة أتمدد عليها براحة، وكم أنا مميزة لأن لدي غرفة نوم مريحة وأنام على السرير وأنا مرتاحة من درجة الحرارة ومن ملمس الشراشف وليونة المرتبة، وكم أنا محظية أن لدي دورة مياه جميلة وكلها أدوات ذات جودة عالية للعناية بالجسم والبشرة. والأهم من كل ذلك، استشعر نعمة وجود أولادي في حياتي، فأنا لا أتوقف عن حمده وشكره وكل مرة أطبخ لهم ويستمتعون بطعامي أشعر بالسعادة، وحين أمر على غرفهم وأجدهم نائمين أو يقومون بأي نشاط يدل على كم هم مرتاحون بعيشهم معي أشعر بأنني مسخرة لهم وهذا يبهجني حتى النخاع، أعلم أنهم كبروا وأصبحوا رجالا ومسألة خروجهم من العش على خير وسلامة لينطلقوا في الحياة هي مسألة وقت، وحتى يأتي ذلك الوقت، سأظل استمتع بهذه التفاصيل، وسأجد لنفسي تفاصيل أخرى تسندني وتوجه بوصلتي لاحقا في مرحلة أخرى.

تذكر القيم والأهداف العليا 

نغرق كثيرا في التفاصيل، فهذا أغضبنا وتلك لم تعاملنا بلطف وهذه المشكلة الصغيرة العويصة ستحتاج يوما كاملا للخروج منها، يا للهول، لماذا نحن هنا؟ هل نحن وحدنا؟ أمان ربي أمان.

الغرق في التفاصيل الصغيرة بصفة مستمرة خصوصا في العمل هي ممارسة تضيع البوصلة تماما. كون الشخص منخرط في عمله ومستوعب لتفاصيله لا يعني أن ينخرط تماما في أمور كان من الممكن أن يوكلها لشخص آخر أو يؤديها بفعالية أكبر، حين تغرق في كل تفصيلة فستفقد تماما التركيز وستتشتت وتحترق، وللحق، أحيانا ستصل لهذه المرحلة مهما كنت واعيا، قد يكون الاحتراق والتعب المضني أحد قناطر الحياة التي كلنا واردها، أتعلمون، هذا ما أحبه في هذه المدونة، أبدأ من مكان وانتهي في مكان واتوقع أن يتفهم الجميع أنه من العادي أن أغير رأي في خضم الكتابة، كلنا سنحترق في مرحلة ما، لا مناص ولا مفر.

رغم كل ذلك، ما أنا مؤمنة به تماما أن تدريب النفس يوميا على تذكر القيم والأهداف العليا هو تمرين يقوم النفس ويقويها. فمهما كنت غارقا في عملك ومنهك ومجهد، تذكرك للهدف الأسمى سيعيد لك التوازن. أنت لست هنا لترضي ذاك المدير الذي أقنعك وأقنع الجميع أنه هو فقط صاحب المقاييس العالية وكلكم عملكم دون المستوى، ولست هنا لتكون “كيس الملاكمة” لزميلك الذي لا يكف عن الشكوى، ولست موجودا يوميا في هذا المكان لتقوم بالعمل بدل زميلك دائم التأخر، أنت هنا لتبني وطنك في هذا القطاع، ما تفعله له أثر متعد وأنت جزء من منظومة بناء كبيرة دورك فيها مهم جدا. لذلك، من النعم المقيمة أن يكون الشخص مقتنعا تماما بالأهداف العليا والقيمة العظمى لما يفعله، لأنها هي التي ستعدل الميزان حين يختل. وهذا ينطبق على الأم كذلك، مهما شعرت بالضغوط والتعب والإرهاق، تذكرك بأنك تبنين جيلا وأن جريك المتواصل وتعبئتك لحقائب الغداء ومتابعتك للدراسة ومواعيد الطبيب والأعمال المنزلية كلها تصب في هدف كبير وشديد السمو، بناء البشر. ليس سهلا أعلم ذلك، ولكن الحياة صعبة يا أصدقائي وتحتاج للتدريب المتواصل.

لا تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك، بل بما هو مهم ومقدر لديهم

هتون، أنت لست المقياس، ما حجم الغرور الذي يجعلك تعتقدين أن الكل يقدر ما تقدرينه أو يتعامل مثلك؟ الناس مختلفون وأهدافهم مختلفة وما يحفزهم ليس بالضرورة هو ما يحفزك، وما تقدرينه أنت وتظنينه محل تقدير عند كل البشرية قد لا يقدره الآخرون ولا يرونه أصلا مهما،  فتوقفي عن العيش في برجك الهتوني.

هذه حقيقة حساسة جدا، فنحن مثلا نعتقد بأن الجميق يقدر البساطة وكون الشخص كما يعبرون بالانجليزية down to earth، ولكن هذا ليس صحيحا أبدا، هناك من لا يقدر ولا يحترم سوى من يظهر نفسه بصورة معينة، وإذا كان ولابد من التعامل مع هذه النوعية من الأشخاص، فمن المهم أن نتعلم أن نقدم لهم ما يقدرونه وذلك لتحقيق الأهداف، هذا لا يعني أن نغير حقيقتنا، بل أن نتكيف مع الظرف، وهذا ذكاء اجتماعي وليس ادعاء أو نفاق.

على صعيد آخر، محاولة معرفة دوافع الناس وما يحركهم ستجعل الشخص أكثر مرونة واستيعابا للنفسيات المختلفة، وستتوقف عن قول الجملة الأثيرة (جدا انصدمت من فلان)، انضج عزيزي وتوقف عن تعريض نفسك للصدمات المتتالية، نحن مختلفون. فإذا كان شخص ما مثلا لا يشعر بالتقدير سوى بطريقة معينة وهذا سيخرج أفضل ما عنده، فحتى لو كانت هذه الطريقة ممجوجة بالنسبة لك، مع أنها أخلاقية تماما، فلا ضير من إعطاءه ما يحتاجه. تذكر ذلك بصفة مستمرة سيقلل من غضبك من الآخرين وسيزيد تعاطفك معهم، وأحيانا قد يحدد مدى عمق علاقتك معهم كذلك، وبعض البش فعلا يعطونك درسا فيما لا تريد أن تصبحه، ويجعلك تعدل ميزانك وتقول اللهم اهدني لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت.

دائما لديك الخيار، أنت لست مضطرا لشئ كما تعتقد

تحدثت قبل فترة مع شخص كان يمر بضغوط شديدة، ورغم ذلك كان يبرر تصرفات شخص آخر بأنه (ترى مضغوط عليه وتعبان، طبيعي حيطلع ضغطه في اللي معاه وتحته، مو بيده والله، الضغط صعب)، فما كان مني سوى أن نظرت إليه وقلت له (شوف مين بيتكلم، إنت نفسك قد أيش كنت مضغوط وما بقي أحد ما لطش فيك، طلعت حرك في اللي معاك واللي تحتك؟)، نظر إلي واستوعب وقال (لا والله)، فقلت له ببساطة (إذن لا تقول مضغوط، تراها اختيارات ومحد مضطر يعمل شي). 

إذا كان رب العزة أعطى البشر الخيار (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، نأتي نحن ونقول أننا مضطرون لأي شئ؟ أحيانا قد يكون اضطرارنا هو نتيجة لسوء تخطيطنا وخياراتنا، لذلك قد يكون الأجدى أن نعدل سلوكنا قبل أن نقول نحن مضطرون لأي شئ. 

على صعيد آخر، من المهم جدا لتعديل الميزان النفسي والحد من الضغوطات التي تؤدي للمرض وإعادة توجيه البوصلة أن نتذكر أننا لسنا محبوسون في شئ ولسنا مسلوبي الإرادة وأن الكون واسع ورب العزة هو الملك القدوس وهو الخافض الرافع، مهما بدا لنا أن الخفض والرفع مرتبط بشخص أو أشخاص أو منظومة، نتذكر أنهم قد يكونوا أسبابا فقط، وما علينا نحن سوى أن نأخذ بالأسباب أو نتركها ونحن موقنون تماما أن الحكم بيد الله أولا وآخرا وليس بيد فلان أو علان. 

ذاك العجز والهوان الذي قد نشعر به حال وقع علينا ظلم ما هو شعور طبيعي، وقد يكون محركا لقرارات مؤجلة، الأهم أن يكون محركا نحو الهدف ومساهما في تعديل الميزان، وليس خلخلته، والأهم أن نتذكر، نحن لسنا مضطرون لشئ إلا فيما ندر.

هذا ما يحضرني الآن، ولنا تتمة، على ما أظن.

هتون

نكذب أم نتجمل؟

اعترف بلا أي خجل بأن فارس أحلامي ومنتهى آمالي حين كنت مراهقة هو الفنان الكبير الراحل أحمد زكي. لكم أعشق هذا الفنان. نظراته العميقة، تعابيره القوية، طريقة تقمصه للأدوار والتي كانت تجعل قلبي ينخلع من مكانه إذا صرخ أو تصرف بعنف في أحد المشاهد، وفي نفس الوقت، كانت مشاعري الغضة تذوب خلال المشاهد الرومانسية والتي لم تكن تخلو من العنف كذلك، كان ولازال بالنسبة لي أحد أفضل الفنانين في تاريخ الفن المصري الذي يمتد لأكثر من ١٢٠ عاما، واستغرب جدا ممن يقول بأنه رحمه الله كسر الصورة النمطية لشكل البطل السينمائي الوسيم، فلم أكن أراه فقط وسيما، بل جميلا بهيا، وسمرة بشرته تلك كانت ميزة وعلامة فارقة، وأدائه السحري أصلا لم يكن يدع مجالا للتركيز على أي شئ آخر.

تذكرته رحمه الله وأنا أمر بمرحلة عميقة من التفكر. أجد نفسي أمعن التفكير كثيرا في سؤال “هل يجب أن يكون الإنسان حقيقيا في تعاملاته وتصرفاته؟” طبعا الجواب الطبيعي والأسلم هو “نعم بالطبع”. وأجدها إجابة منطقية جدا، فمن منا يحب التعامل مع المدعيين؟ من منا لا يشعر بالاشمئزاز من الأشخاص الذين يدعون خلاف حقيقتهم ويظهرون أشياء لا تمت لهم بصلة فقط ليحققوا أهداف معينة؟ تذكرت فيلم الراحل أحمد زكي “أنا لا أكذب ولكني أتجمل” والذي يحكي قصة شاب فقير يعمل والده في حفر المقابر، ويقع في حب إبنة كاتب كبير زاملها في الجامعة والتي كان خلال دراسته فيها يدعي بأنه إبن إحدى العائلات المرموقة، ليس كذبا حسب منظوره، ولكن تجملا ورغبة بالحصول على القبول في أوساط لم تكن لتمنحه فرصة للتواجد فيها بهويته الحقيقية. وطبعا، وحسب القصة الكلاسيكية، تعاطفت معه الفتاة في البداية وأحبته صدقا، ولكن النهاية لم تكن سعيدة، وبالطبع، لم يتفهم أحد حاجة الطالب الفقير للتجمل والهرب من واقع فرض عليه ولم يختره.

أفهم جدا أن يحاول الإنسان التجمل والهرب من واقعه، ومن يقول بأنه فخور بواقع لا يدعو للفخر فغالبا هو يكذب على نفسه، هناك فرق بين أن تقبل واقعك وتواجهه بشجاعة وتحاول تغييره وبين أن تكون فخورا به وغارقا فيه دون أي رغبة بالخروج منه، هذا في حال كان الواقع هو أمر فرض عليك بحكم بيئتك ونشأتك، فكثيرون ولودوا ونشأوا في بيئات بسيطة وكافحوا ليتلقوا تعليما مميزا وحاولوا بشتى الطرق تحويل واقعهم البسيط لمستقبل واعد، وفي الطريق سحبوا معهم أفراد عائلاتهم وارتقوا في السلم الاجتماعي وكانوا هم من كسر دائرة الفقر في محيطهم.

ولكن ماذا إذا كانت حقيقتك هي عبارة عن نفس قبيحة غارقة في الحسد والحقد؟ ماذا إذا كنت شخصا سفيها طويل اللسان عالي الصوت؟ هل تظهر للناس على حقيقتك وتتشدق بهراءات (هذا أنا بلا اعتذار وعلى الجميع تقبل حقيقتي)؟ ولإحقاق الحق، الكثير من سيئ الخلق وسليطي اللسان هم نتاج بيئاتهم وتربيتهم، فالأم تتشدق وتشتم، والأب يؤذي جيرانه بلسانه وسلوكه والعائلة كلها تصرخ وتتشدق بالقبيح من القول، فالطبيعي أن من ينشأ في هذه البيئة سيعتاد هذه السلوكيات وسيراها طبيعية، والأدهى من ذلك حين يكون ديدن بعض العوائل الانتقاص من الفئات المختلفة ونعتهم بصفات عنصرية، وهذه كارثة في هذا العصر الذي اندمج فيه الجميع وأصبح العنصري هو المنبوذ وليس المختلف. ولكن، هل هذا عذر لأن يصر الشخص على سلوك منبوذ يعرقل تقدمه ويحرمه من الفرص؟ أم كأي شخص بالغ عاقل سيحاول أن يطور من نفسه ويهذب شخصيته لتكون سلوكياته مقبولة اجتماعيا، وبالتالي تصبح عنده فرص للتقدم على عدة مستويات اجتماعية ووظيفية؟ ما الصحيح في هذه الحالة؟ قد يكون الأقرب للمنطقي هو أن يتفهم الشخص بأن الطباع التي يظهرها للناس هي بوابته للاندماج وبناء العلاقات، وأن عليه أن يتحمل مسؤولية سلوكياته ويتوقف عن لوم بيئته ونشأته، فبالتالي، عليه ببساطة أن يتبع الهدي النبوي ويخالق الناس بخلق حسن ويسعى جاهدا لتغيير نفسه، وليبدأ ذلك عليه أن يتصرف خلاف طبيعته وهذا يستلزم جهدا كبيرا، فإذا كانت ردة فعلك الطبيعية هي أن تصرخ أو تشتم إذا توترت، فأن تراقب نفسك وتمسك لسانك حتى لا يتلفظ بقول قبيح هو فعل مجهد ويستلزم طاقة، ولكنها مع الوقت ستتحول لعادة، وفعلا كل عادة من الممكن أن تتغير إذا كانت الشخص واعيا وراغبا بشدة في التغيير، وكما قال الحكماء، إنما الصبر بالتصبر وإنما الحلم بالتحلم.

ولكن، وهنا لكن كبيرة جدا، ماذا إذا كانت طبيعتك هي نفس منطلقة ومليئة بالطاقة ومفعمة بالحياة؟ ماذا إذا كانت شخصيتك الأصيلة هي شخصية متعاطفة ومحبة وقادرة على التواصل مع الجميع دون أي حدود أو حواجز؟ ماذا إذا حباك الله بطريقة متفردة في التعامل تجعلك قريبا من الجميع؟ المنطقي هنا أن هذه نعمة كبيرة تستحق الحمد والشكر، فالكثيرون يجاهدون ليتمكنوا من التواصل مع الجميع بشخصياتهم الأصيلة ويبذلون قصاري جهدهم لتطوير مهاراتهم، فإذا كانت هذه حقيقتك، فهنيئا لك ونغبطك على هذا التفرد ونسأل الله أن يعطينا مما أعطاك.

السؤال هنا، هل الكل يستحق حقيقتك؟ ماذا عن من يرى في بساطتك وعفويتك ضعف وقلة “بريستيج”؟ ماذا عن من يرى في ابتسامتك الد ائمة وضحكتك الغير متكلفة تباسط ممجوج؟ هل يستحق هؤلاء حقيقتك؟ قد يميل أغلبنا للرأي القائل بأن على هذا الشخص التمسك بطبيعته بالذات إذا كان على درجة كبيرة من الوعي ويعلم تماما أن تصرفاته متوائمة تماما مع الزمان والمكان، فهذا العالم المتقلب الملئ بالقسوة بحاجة للطيبين الهينين، وبصراحة، لماذا نحمل الشخص الطيب عبئ الادعاء؟ التصرف عكس الطبيعة مهما كانت جهاد كبير . تخيل المجهود الكبير الذي يحتاجه الشخص ليكبت شتيمة بذيئة اعتاد لسانه أن يطلقها في حال داس أحد بالخطأ على قدمه أو سقط عليه خلال قيادة السيارة؟ مجهود خارق حقيقة، فطبعنا يغلبنا مالم ننتبه، وللأسف أضعاف هذا المجهود سيحتاجه الشخص الذي اعتاد التبسم والتباسط مع الجميع ليكبح ابتسامته ويلجمها ويبتلع ضحكة أوشك أن يطلقها. هذا المسكين سيحتاج لتلقين نفسه عشرات المرات حتى لا تغلبه عفويته ويبتسم ابتسامة عريضة يراها من أمامه تصرف مخالف للبريستيج.

هل يستحق الطبع الطيب هذا المجهود لكبحه؟ ما الأولى هنا؟ التمسك بالطبع الطيب حتى لو لم يستحقه الآخرون أم بذل المجهود الكبير حتى نعطيهم ما يستحقون؟ فلماذا نعطي ابتسامتنا وروحنا الطيبة لمن لا يستحقها؟

ما الأجدى هنا؟ ما الأفضل؟ ما الأذكى؟ أخبروني إذا عرفتم.

ودمتم بخير،

هتون، ٣٠/٧/٢٠٢٥