خلاصة RSS

Category Archives: الفريدة

لم أتخيل يوما أن أرثي أمي، لم أكن أصلا أعلم أن الكتابة عن الفريدة ستصبح روتينا وأن إحياء ذكراها سيصبح سلوى أتصبر بها على لوعة الفراق، رحمك الله يا سيدة قلبي، يا ألوان الحياة، يا نورا سطع وأفل وسيظل انعكاسه يظللنا ما حيينا

صيف قائظ وعقل صاخب

لم أدون منذ فترة رغم صخب الأفكار في رأسي. وحقيقة رأسي الذي هو سبب سعادتي وسبب شقائي في ذات الوقت يحوي مخا نادرا ما يهدأ، ولعلي أحمد الله كثيرا أن علمني وهداني لأن أجعل هذا الصخب الدائم مساحة للتفكر والأفكار الجديدة، وأحاول قدر المستطاع أن ابتعد عن الأفكار الهدامة المريعة والأحكام الشنيعة التي أختص بها نفسي فقط دونا عن كل البشر، ولكنها محاولات تنتهي أحيانا بصوت داخلي لا يخدمني بتاتا وأخال لو كان لنفسي القدرة على تصوير هذه الأفكار وتجسيدها بطريقة ما ومن ثم ضربها ولكمها لفعلت، ولكن النفس الأمارة بالسوء تسترسل بعبارات (أحسن خليكي كدة، شوفي حياتك، شوفي هبلك فين وصلك، محد يحبك ومافي أحد يبغى يكون معاك)، ولا حول ولا قوة إلا بالله من هذا الرأس ذي الأفكار الغير منطقية.

كان مخططي أن أكتب عن موضوع أفكر به منذ فترة عن عمر العلاقات وكيف نكبر عليها وتنتهي أحيانا دون رغبة منا، ثم فجأة وجدت صورة فرودتي الحبيبة تحضر وتتجسد أمامي. فرودتي في حياتها لم تكن يوما متطلبة، كانت لآخر يوم في حياتها الغنية المثرية مستقلة ومعتمدة على نفسها حتى في تسليتها وانبساطها، لم تطلب يوما من أحد شيئا، وكانت دائما كما يقولون too proud to ask, ولكن تجسد لي وجهها الجميل بابتسامة خلتها معاتبة، وكأنها اشتاقت أن تقرأني، أو كأنها عرفت أن الصيف هيج مشاعرنا وأعادنا لنقطة الصفر، صيفيات فريدتي كانت تجربة متجددة كل عام وإن تشابهت الأماكن.

ماذا أقول لك يا فرودة؟ هل أخبرك عن السنة الدراسية الطويلة الغنية الحافلة بالأحداث؟ أكاد أجزم أن هذه السنة يا فرودتي كانت طويلة طولا لا يقاس بالأيام، لا أجد وحدة قياس ملائمة لما مررت به خلالها. فهل أقيسها بعدد الأيام التي افتقدتك فيها؟ أم أقيسها بحجم الانكسارات؟ أم لعلي أكون متفائلة وأقيسها بحجم الانتصارات التي حققتها والتي كانت دفعة كبيرة لي للاستمرار وإن جاءت متأخرة، أم لعلي أقيسها بحجم الفراغ في قلبي والذي خلفه غيابك مع غياب مشاعر أبت أن تستوطن أو تستقر.

كانت سنة كبيسة يا حبيبتي. أتذكرين حين اتصلت عليك لأخبرك بأني أصبحت عميدة للكلية؟ بعد تحديات كبيرة ورحلة صعود ونزول ونمو، أخبرك أنني لازلت مستمرة. لقد كبرت يا فرودة، كبرت كثيرا، تعلمت بالطرق الصعبة، واجهت مواقف لم أتخيل أن أواجهها، مررت بلحظات شعرت فيها أنني مرفوضة تماما لأسباب لا يد لي فيها، وكان شعورا مريعا يا حبيبتي. أتذكرين حين أخبرتك أنه بعد ترقيك لدار الحق بت أشعر أنه فعلا لا أحد سيحبني أو يتقبلني بعدك؟ أعادني ذاك الشعور لتلك اللحظة، لعلي كنت محظوظة أنني كنت في حالة أقوى، ونعم يا فرودة، لقد تقويت، غيابك المفاجئ كان انكسارا كبيرا وجرحا غائرا، ولكن جبار المنكسرين كان ولازال تعالى معنا، الوقت ومروره لا ينسي، ولكن يجعلنا نتعود على الغياب ووجوده دون محاولة ملئه، وهذا ما حصل.

والآن، علينا مواجهة بيتك الصيفي بدونك. يعلم الله كم هي فكرة مريعة. وحقيقة استغرب، لماذا اتهيب مواجهة بيتك الصيفي في حين أن غرفتك في بيتك العامر بمكة المكرمة كانت مصدر سكينة وسلوى؟ هل لأن البيت الصيفي ارتبط بالبهجة وبالتغيير؟ هل هذا عائد لدورك الكبير في تجميل المكان وجعله يبدو وكأنه أفضل مكان في العالم لقضاء الصيف؟ هل لأنك كنت تيسرين السبل للجميع ليأتوا ويستمتعوا فأصبح غيابك سببا كافيا لأن يفرغ المصيف تماما من معناه؟ حقيقة لا أعلم، ولعله من غير العدل فعل ذلك، لقد أحببت المكان يا فرودة وأنا واثقة من أنه لو استمر أحبابك بالمجئ واستمتعوا بوقتهم ستكونين سعيدة وراضية، عجيب أمرك يا فرودة، والله لازلت لا استوعب كيف كنت بتلك المرونة والنفسية التي ترحب بالجميع دون أي استثناء، كنت تخدمين بنفسك وتنظفين وتغسلين وتعدين مائدة إفطار شهية متكاملة في تلك البلكونة المطلة مباشرة على بحر إيجة، من عساه ينسى البيض بالسجق والزيتون الذي كنت تخللينه بنفسك والأنواع المتنوعة من الأجبان وملحقاتها، والأهم القشطة التركية مع العسل، ولتكتمل الصورة كنت حريصة على إعداد الشاي التركي وتركه يتخدر لتكون نكهته غنية وعميقة، والله لكان يكفيه أن تلمسيه بيدك المحبة ليستحيل مشروبا من الجنة وإن كان حفنة تراب، تلك كانت فرودتي، وتلك كانت معشوقتي، أعلم أنك لا تفتقدين شيئا في هذه الفانية، ولكن نحن من نفتقد وجودك، أنا من افتقد محاولاتك الكثيرة لإقناعي بأن كوشاداسي جميلة وممتعة، وأنت تعلمين يقينا أنني لا آتي في الصيف إلا لأنك هناك، وكنت تشعرين بالمسؤولية ناحيتي وكأن متعتي هي هدفك، آه يا حبي، لا أظن أن أحدا سيمنحني ذات الشعور، ليتني قدرته، من لعله يشعر أن سعادتي وانبساطي هدف له؟ من أنا أصلا ليشعر أحد حيالي بذلك؟ فقط أمي من كانت تشعر لي بذلك، الحمد لله، يا رب الرضا والتسليم دائما.

سنذهب للمصيف، وستكونين هناك مبتسمة ومرحبة بروحك التي لم تفارقنا لحظة، ساستشعرك وأدعو لك في كل خطوة، وأعلم أن الله سيهون علي ويجبرني فهو ولي ذلك والقادر عليه.

هتون

ماذا يعني رمضان بدون الفريدة

Posted on

“اللهم بلغنا رمضان لا فاقدين ولا مفقودين”

لأول مرة في حياتي التي ليست بالقصيرة اتأمل هذا الدعاء الذي كنا نردده آليا، واستوعب حجم المعاني والدلالات فيه. لا فاقدين، ولا مفقودين، يعني أن نكون معا، يعني أن نستقبل رمضان ونحن مكتملو العدد، إن لم يزد علينا مولودا نحتفل به ونراقب نموه بسعادة، ولكن ابتلانا الله سبحانه وتعالى ،لحكمة لا يعلمها إلا هو وفي مشهد متكرر يجسد سنة هذه الحياة، بنقص من الأنفس، بفقد هائل صعب يقض المضاجع، جاء رمضان ونحن فاقدون لنور عيننا وبهجة أنفسنا وروح بيتنا، والدتنا الفريدة، ولا نقول سوى الحمد لله على قضاءه وقدره.

يا الله يا فرودة، ماذا نقول وماذا نردد؟ ماذا نتذكر وماذا نسترجع؟ هل استرجع رمضاننا في طفولتنا واستقبالك له بإعداد السوبيا والتمر بالسمسم والنانخة وطاسات الزمزم المبخر؟ أتذكرين أيام كنت شغوفة بالعجين واستعدادك لقضاء وقت العصر بكامله وأنت تفردين العجين لإعداد البريك والسمبوسك الملفوف، وكنت أنا أشاركك الشغف فأعد لك الصالة بالشراشف التي ستفردين عليها العجين وأكون مسؤولة عن فرد العجين ومطه للأطراف دون أن يتمزق، وبعدها نرش الزيت بين الطبقات ونفرد اللحم في المنتصف ونكرر الطبقات. أذكر يا حبيبتي فخرك بهذا المنتج وحبك له وأذكر أيضا كيف كنت تذكرينه بشغف بعد أن توقفت تماما عن إعداده في السنوات الأخيرة بجملتك المشهورة (خلاااااااص سوينا وخلصنا، الله يخلي العجين الجاهز).

دائما كنت متجددة، فحتى حين توقفت عن عملية (رق العجين)، لم تتوقف ابتكاراتك، ففضلا عن الكلاسيكيات الرمضانية والتي تشمل سمبوسك البف والذي مهما تغير الزمن لم يتوقف مطبخك عن انتاجه، والكاسترد والجلي والذي لا تخلو من ثلاجتك، وطبعا شوربة الحب واللحوح، فقد كنت دائمة الابتكار لأصناف جديدة تعكس روحك الشابة المتطلعة دائما والتي تعشق التجربة وتتطلع للآراء المختلفة، روحك تلك التي كانت تستمد الطاقة من استمتاع أحبابك بما تعدينه وباجتماعهم دائما.

ماذا أقول لك يا حبيبتي؟ هل أخبرك بأن حليمة، عاملتك التي علمتها بنفسك وأشرفت على إعدادها لتكون شيف ماهرة، لم تتوفق أبدا في إعداد الكاسترد بالجلي؟ أتعلمين حجم الألم والفقد الذي شعرنا به حين افتقدنا هذه التفصيلة؟ وعدتك ألا أخبرك سوى بما هو مبهج، ولكن لا نخفي عليك أن رمضان صعب صعب صعب بدونك، هي ليست فقط التفاصيل، الموضوع أكبر من طبق كاسترد بالجلي لا يرقى لمستوى مطبخ الفريدة، وجودك يا حبيبتي كان هو المعنى. أنت بتفردك كنت تصنعين المعاني والمواقف دون جهد منك.

منذ طفولتي وأنا أذكر تفاصيلك في الصلاة والذكر والقرآن. كنت حتى آخر رمضان لك في الفانية، وقت التروايح تدخلين غرفتك، تخفضين الإضاءة، تفرشين سجادتك وتجهزين المصحف وتضعين أمامك جرة زمزم وترمس قهوة، وتبدأين الصلاة. في طفولتنا، لم تكن مشاركة النساء في الصلاة في المساجد أمرا دارجا، وحتى حين أصبحت تذهبين للمسجد، ظلت طقوسك في الصلاة في المنزل قائمة، وأذكر جملتك الشهيرة (أنا ما أحب الجري في المساجد، أصلي في بيتي برواقتي، والحمد لله المسجد جنبي إذا أبغى أروح)، كم مصحفا كنت تختمين؟ كثير يا فرودة كثير، كنت تختمين المصحف وراء الآخر وتجمعينا معك قبل المغرب لنقرأ دعاء ختم المصحف في مشهد نجمع في الأبناء والأحفاد ونتحلق حولك وتدعين ونؤمن، يا الله، هل أصبحنا نحن من ندعو لك بعد أن انقطع عملك؟ لا يا حبيبتي هيهات أن ينقطع، فصدقاتك الجارية موجودة، ونسأل الله أن نكون الولد الصالح الذي يدعو لك.

فرودتي الحبيبة، أعلم أنك أوصيتنا بديننا وربنا والصبر والإيمان بالقدر، أرسلت لنا هذه الرسائل، وبإذن الله نحن على العهد باقون، صابرون ومحتسبون وعلى نهجك بنشر الخير باقون. ولكن يا حبيبتي ماذا أفعل أنا بروحي التي تموت؟ ماذا أفعل بتفاؤلي وروحي المتوهجة التي تنطفأ تدريجيا دون وعي ودون رغبة مني حتى بالمقاومة؟ كيف أتقوى؟ أعلم أن الوصفة موجودة، الصبر والإيمان بالقدر والاستعانة بالله، ولكن تطبيق الوصفة أضحى تحديا كبيرا. الحياة صعبة يا فرودة، نعم صعبة، يعلم الله تعالى كم أقاوم، وبإذن الله لن استسلم، ولكني تعبت يا فرودتي من الادعاء، تعبت من دور الشخص الذي لا يكسر ولا يقهر. روحي تذوي، شعوري بعدم الجدوى يتعاظم، وإحساسي بالفقد يكبر كل يوم، أنا افتقد نفسي، وغربتي تزيد، ونعم، أفتقدك واستوحش الدنيا بدونك، ولا أقول إلا إنا لله وإنا إليه راجعون. والله راضون، ولا نسخط ولا نجزع ولا نعترض، ولكن أنا شخصيا روحي تموت وتنذوي وتنطفأ، واسأل الله أن يجمعني بنفسي ويعيدني إليها، لا فاقدة ولا مفقودة.

أنت يا روح الروح في مكان أفضل، سامحيني إن بلغك عني ما يكدرك، ولكن كما كنت دائما قوية بربك وإيمانك، أعلم أنك سترسلين لي رسالة خاصة اتقوى بها وأحاول استرجاع روحي وتفاؤلي وتوهجي وكل ما اكتسبته منك. الحمد لله دائما وأبدا، ويا رب لا تحرمنا خير ما عندك بسوء ما عندنا، وهب لنا من لدنك سلطانا مبينا.

هتون،

٥ رمضان ١٥٤٥هجرية، أول رمضان بدون الفريدة