خلاصة RSS

ارفعي طاقتك الأنثوية، أيتها التي ليست أنثى

كنت استمع صدفة لمقطع على موقع انستجرام وصدف أن يكون للدكتور محمد الحاجي، الباحث في علم السلوكيات الإنسانية والذي صدف أيضا أنني إحدى متابعاته وسبق لي أن شاركت في أحد حلقات بودكاست “آدم” والتي كانت عن الفقد، وحقيقة أكن الكثير من الاحترام والتقدير للدكتور محمد، والمقطع الذي سمعته ليس فقط أثار اهتامي، بل حفزني وجعلني أرغب جدا بالكتابة. كان يتحدث عن الحالة التي تصيب الكتاب بمختلف اختصاصاتهم، وهي حالة ال writer block أو الانحباس الكتابي كما أحب أن أسميها، والذي عكسه تماما حالة الانصباب أو ال writer flow وهي حالة من انسيابية الكتابة تجعل يد الكاتب تجري دون أن يشعر ويكتب باستمتاع شديد لدرجة أنه قد ينظر فجأة للساعة فيجد أن الوقت قد انقضى بسرعة شديدة، وهذا عادة ديدن الأوقات الطيبة وأوقات الإنجاز، لا نشعر فيها بمرور الوقت. الحل الذي قدمه الدكتور محمد الحاجي لحالة الانحباس الكتابي هي أن يبدأ الكاتب بالكتابة، حتى لو بكتابة سيئة لاهدف لها، ولا يتوقف حتى تختمر الفكرة، وأدرج في سياق كلامه (ابدأ بشئ تافه).

يا سلام عليك يا دكتور محمد، لله درك. لقد ألهمتني وأجريت يدي للكتابة عن موضوع لا علاقة له بتاتا بالانحباس الكتابي ولا الحراري ولا العاطفي ولا أي نوع من الانحباسات، ولكنها التفاهة يا أخي. جعلني الدكتور محمد أتمعن في ما يحيط بنا من تفاهة واتعجب، لماذا لا يصاب التافهون بالانحباس التفاهي؟ لماذا لا ينبض معينهم من المزيد من التفاهة؟ هل هم بدأول بفعل تافه واحد فبالتالي جرت التفاهات بعضها فلم يعد هناك أي مشكلة بالمزيد؟ 

كشخص معروف بكثرة التفكير وأحيانا جلد الذات، كنت أقول لنفسي (هتون مالك شغل، كل واحد يسوي اللي يبغاه، التفاهة مفهوم نسبي)، ولكن هل حقا هي مفهوم نسبي؟ هل كل ما ينشر على وسائل التواصل من محتوى يكاد يكون سببا رئيسا في ضعف مخرجات التعليم وتراجع نسب الذكاء والفهم عند الناس هو شئ نسبي لا يصح أن نسميه تفاهة؟ حين يهجم عليك محتوى سفيه من شخصيات لا هم لها سوى التسوق والشراء وتسويق أساليب حياة غير منطقية ألا يتسبب ذلك في التقليل من شأن الأمور الأكبر؟ حين تضج وسائل التواصل بمحتوى ظاهره التوعية ولكن باطنه فارغ ويسوق بكل سطحية للتمحور حول الذات وتسفيه قيم العائلة والتضحية ألا يصح أن نسمي هذا محتوى تافه وفارغ وللأسف خطر؟ 

للحق، لا يقلقني المحتوى التافه السطحي الذي لا يختلف عليه اثنين، فلا خلاف أبدا أن تلك الفتاة التي لا هم لها سوى (هاي بنات، جبتلكم اليوم منتج يموووووت أنا ما استغنى عنه)، وحقيقة لو استخدمت كل الأشياء التي تدعي (أنها لا تستغني عنها) لما وجدت وقتا للمزيد من الإعلان عن المنتجات، إجمالا هذا المحتوى يتابعه الناس وهم يعرفون أنه لا فائدة من ورائه، وأقصى الخسائر هي خسائر في الأموال وأحيانا نفسية (خائسة) بسبب كثرة المقارنات والشعور أن الآخرين حياتهم أسلس وأسهل، ولكن ماذا عن المحتوى السطحي الذي ظاهره الرحمة وباطنه من قبله العذاب؟ ماذا عن ذاك المحتوى الذي يدعي العلم استنادا على علوم زائفة لا إثباتات عليها مثل الطاقة والوعي والذكورة والأنوثة ويبني عليها برامج كاملة دون علم حقيقي ولا معرفة عميقة؟ ماذا عن تلك الجرأة التي تجعل من أشخاص يصممون برامج دون أي سند علمي وبمنتهى السطحية ويأخذون عليها الأموال من أشخاص أنهكهم التعب ويرغبون بتحسين حياتهم وتطوير أنفسهم؟

مررت مصادفة بأحد تلك الحسابات والتي مرت صاحبته بالكثير من المنعطفات في حياتها، مثلها مثل الكثيرات، لا شئ جديد ولا غريب ولا مستهجن،  بدءا من زواج في سن مبكرة ثم طلاق ثم زواج مرة أخرى يتخللها محاولات مشاريع ما بين فشل ونجاح، وتصور هذه الرحلة الطبيعية جدا وكأنها خوارق كونية لم يخلق مثلها في البلاد، وتسمي التكيف الطبيعي مع الظروف والتماهي معها (تشافي)، تقنعنا هذه المؤثرة بأن تجاوز الطلاق شئ يحتاج لدورات بآلاف الريالات وأنها لو عاد بها الزمن لما انتظرت سنوات طويلة لتتطلق ولقالت له (طلقني يا جاسم) عند أول خلاف لأن العمر عند هؤلاء الأشخاص ليس (بعزقة)، فلماذا تصبرين على شخص يشخر وهو نائم ولا ينشف حوض الغسيل بعد الاستخدام؟ لماذا مقاييسك لهذه الدرجة منخفضة؟ لماذا لا تتعلمين رفع الاستحقاق؟ لماذا لا تقتنعين داخليا أنك تستحقين رجلا معه خادم ينظف الحوض بعده ويلم غسيله ويفصله حتى تقوم الخادمة المختصة بالغسيل بالمهمة على أكمل وجه؟ لماذا تقبلين العيش مع رجل يشتري من محلات الجملة ومرتبط بأهله وعنده واجبات تجاههم؟ لماذا تهون عليك نفسك أن تسافري في الدرجة الاقتصادية؟  لماذا أنت هنا الآن ولم تسجلي بعد في رحلة ال retreat التي ننظمها أنا وزوجي الجديد الذي تزوجته بعد أن خلعت زوجي السابق وتركت له الأطفال ليربيهم وتفرغت أنا للتشافي؟ هيا سجلي ولا تضيعي المزيد من الوقت، اعتزلي ما يؤذيك وأعطني في الطريق الريالات والدولارات.

هذا المحتوى ملغم وخطر لأنه يتسلل للعقل بنعومة شديدة مستخدما بديهيات لا تحتاج لعاقل أو حصيف ليدركها، ويغلفها بغلاف شديد الجاذبية يجعلك تعتقد أن هذا علم مثبت ومدروس وقائم على أبحاث ودراسات قامت هي بها على منصة إكس ومن خلال جروبات الواتس اب، هذا المحتوى يجعلك تشعر بالذنب إذا كنت تعيش حياة طبيعية بها مشاكل ومسؤوليات وصراعات وتسميها (مقاييس منخفضة). هذا المحتوى يخالف السنن الكونية بعدالة تقسيم الأرزاق وأننا مختلفون في المقاييس وأن كوننا ولدنا ونشأنا في مجتمع وعائلة معينة يحتم علينا أمورا قدرية عادية وطبيعية وصراعات لا دخل لها بخفض أو رفع الاستحقاق، وأنه من الطبيعي والعادي جدا أن يكون هناك طبقات اجتماعية مختلفة، وكونك لا تنتمين للطبقة الأعلى فهذا لا يعني أن استحقاقك منخفض، بل لأن هذا قدرك وإذا أردت تغييره فعليك السعي والعمل وليس التسلق والجذب.

في القرون السابقة، كان من الصعب جدا على الإنسان تغيير طبقته أو مكانته المجتمعية. كانت المجتمعات مقسمة لطبقة النبلاء وأصحاب الأملاك والأموال والطبقة العاملة. وفي المجتمعات العربية كان هناك التجار والعاملون لديهم، وكان من الصعب جدا أن تختلط الطبقات أو تتغير وفعليا كان مصير الإنسان محكوم بميلاده ونشأته ومن الصعب جدا أن يغير هذا. نحن محظوظون في المجتمعات الحديثة بأنه أصبح من العادي جدا على المجتهد أن يغير طبقته المجتمعية، وليس فقط ذلك، بل يستطيع سحب عائلته بأكملها معه. مع توافر الفرص و زيادة الوصول للتعليم العالي، لم يعد الثراء والتميز المجتمعي حكرا على طبقة معينة، بل من العادي جدا أن تسمع عن شخص ولد وعاش في بيئة متواضعة وتمكن بجده واجتهاده من إكمال تعليمه ومن ثم تقلد وظائف مرموقة رفعت من إسمه ومن إسم عائلته وأصبح هو المقياس الجديد لمحيطه ومجتمعه، وسمعنا ولازلنا نسمع عن رجال أعمال بنوا إمبراطوريات دون الاستناد على إرث أو إسم العائلة أو القبيلة، وهذه أيضا سنة كونية لأن لكل مجتهد ونصيب والله سبحانه وتعالى لا يضيع عمل عامل ودائما سيجازى الإنسان على قدر سعيه، لكن أن يعتقد الشخص أنه “يستحق” فقط دون أن يحاول الأخذ بالأسباب المتوائمة مع هذه السنن، فهذا هراء محض وسطحية وبيع للأوهام، ولو كان في بائعي الوهم ومسوقي الدورات خيرا  لنفعوا أنفسهم بدل التكسب من أخذ الأموال من المساكين الذين ضاقت بهم الأرض بما رحبت ولم يجدوا سوى هذا الهراء  لينتشلهم من بؤسهم ويعيد لهم التوازن والاستحقاق المفقود.

كثير منا تأثر بهذه الدعوات، ولا يشترط أن يكون الشخص مغفلا أو محدود الذكاء حتى يصدق أو يتأثر. الكثير من المؤمنين بنظريات المؤامرة مثلا هم من المتعلمين والمثقفين، ولكن يجمعهم عدم القدرة على العيش مع عدم اليقين فيلجأون لتفسيرات تبدو لهم منطقية، فمن الأسهل على النفس البشرية أن تؤمن بوجود قوى تخفية تتحكم في العالم وأن الكورونا مؤامرة وأن لا شئ يحصل صدفة وأن كل الأمور مرتبطة بطريقة أو بأخرى. وبنفس المنطق، الكثير ممن يلجأ مثلا لنظريات الذكورة والأنوثة والاستحقاق هم أشخاص أنهكتهم محاولات تحسين حياتهم، فوجدوا في هذه الدعوات حلولا سحرية خلاف ما يقتضيه العلاج النفسي أو العلاج المعرفي السلوكي من وقت ومجهود وحتى أموال. 

في خضم هذه الفوضى وطوفان المحتوى السطحي التافه، قد يكون من المفيد العودة للأساس والاقتناع بأن لا أحد معصوم من التأثر، وأن من حق الإنسان على نفسه أن يقوم بعمل “فلتر” لما يغذي به دماغه، وهذه “الفلترة” التي يقوم به الشخص بكل وعي ستحميه من طوفان التأثر بكل ما يقال وينتشر. فالمرة القادمة، حين تقنعك إحداهن أن عزوبيتك المستمرة من سنوات طويلة هي بسبب طاقتك الذكورية وضعف استحقاقك وأن كل ما عليك فعله هو أخذ دورة رفع طاقة الأنوثة، فابتسمي وأغلقي أذنك وتوجهي لما ترينه أنت مناسبا من الأخذ بالأسباب بغض النظر عن نوعها، وإذا جاء أحدهم لييخبرك بأن السبب المستمر لخسارتك للأموال ليس بسبب قراراتك الخاطئة وضعف مهاراتك الاستثمارية، بل لأن طفلك الداخلي لديه مشكلة مع المال، فاغلق أذنك واذهب لمختص ليساعدك على بدء خطوات عملية مدروسة لتحسين وضعك. 

ودمتم بخير وعافية.

هتون

أفاتار غير معروف

About Hatoon

A writer, Assistant Professor and media personnel. I always claim I am cooool but I am not, check my youtube channel Noon Al Niswa ww.youtube.com/user/NoonAlniswa

أضف تعليق