اعترف بلا أي خجل بأن فارس أحلامي ومنتهى آمالي حين كنت مراهقة هو الفنان الكبير الراحل أحمد زكي. لكم أعشق هذا الفنان. نظراته العميقة، تعابيره القوية، طريقة تقمصه للأدوار والتي كانت تجعل قلبي ينخلع من مكانه إذا صرخ أو تصرف بعنف في أحد المشاهد، وفي نفس الوقت، كانت مشاعري الغضة تذوب خلال المشاهد الرومانسية والتي لم تكن تخلو من العنف كذلك، كان ولازال بالنسبة لي أحد أفضل الفنانين في تاريخ الفن المصري الذي يمتد لأكثر من ١٢٠ عاما، واستغرب جدا ممن يقول بأنه رحمه الله كسر الصورة النمطية لشكل البطل السينمائي الوسيم، فلم أكن أراه فقط وسيما، بل جميلا بهيا، وسمرة بشرته تلك كانت ميزة وعلامة فارقة، وأدائه السحري أصلا لم يكن يدع مجالا للتركيز على أي شئ آخر.
تذكرته رحمه الله وأنا أمر بمرحلة عميقة من التفكر. أجد نفسي أمعن التفكير كثيرا في سؤال “هل يجب أن يكون الإنسان حقيقيا في تعاملاته وتصرفاته؟” طبعا الجواب الطبيعي والأسلم هو “نعم بالطبع”. وأجدها إجابة منطقية جدا، فمن منا يحب التعامل مع المدعيين؟ من منا لا يشعر بالاشمئزاز من الأشخاص الذين يدعون خلاف حقيقتهم ويظهرون أشياء لا تمت لهم بصلة فقط ليحققوا أهداف معينة؟ تذكرت فيلم الراحل أحمد زكي “أنا لا أكذب ولكني أتجمل” والذي يحكي قصة شاب فقير يعمل والده في حفر المقابر، ويقع في حب إبنة كاتب كبير زاملها في الجامعة والتي كان خلال دراسته فيها يدعي بأنه إبن إحدى العائلات المرموقة، ليس كذبا حسب منظوره، ولكن تجملا ورغبة بالحصول على القبول في أوساط لم تكن لتمنحه فرصة للتواجد فيها بهويته الحقيقية. وطبعا، وحسب القصة الكلاسيكية، تعاطفت معه الفتاة في البداية وأحبته صدقا، ولكن النهاية لم تكن سعيدة، وبالطبع، لم يتفهم أحد حاجة الطالب الفقير للتجمل والهرب من واقع فرض عليه ولم يختره.
أفهم جدا أن يحاول الإنسان التجمل والهرب من واقعه، ومن يقول بأنه فخور بواقع لا يدعو للفخر فغالبا هو يكذب على نفسه، هناك فرق بين أن تقبل واقعك وتواجهه بشجاعة وتحاول تغييره وبين أن تكون فخورا به وغارقا فيه دون أي رغبة بالخروج منه، هذا في حال كان الواقع هو أمر فرض عليك بحكم بيئتك ونشأتك، فكثيرون ولودوا ونشأوا في بيئات بسيطة وكافحوا ليتلقوا تعليما مميزا وحاولوا بشتى الطرق تحويل واقعهم البسيط لمستقبل واعد، وفي الطريق سحبوا معهم أفراد عائلاتهم وارتقوا في السلم الاجتماعي وكانوا هم من كسر دائرة الفقر في محيطهم.
ولكن ماذا إذا كانت حقيقتك هي عبارة عن نفس قبيحة غارقة في الحسد والحقد؟ ماذا إذا كنت شخصا سفيها طويل اللسان عالي الصوت؟ هل تظهر للناس على حقيقتك وتتشدق بهراءات (هذا أنا بلا اعتذار وعلى الجميع تقبل حقيقتي)؟ ولإحقاق الحق، الكثير من سيئ الخلق وسليطي اللسان هم نتاج بيئاتهم وتربيتهم، فالأم تتشدق وتشتم، والأب يؤذي جيرانه بلسانه وسلوكه والعائلة كلها تصرخ وتتشدق بالقبيح من القول، فالطبيعي أن من ينشأ في هذه البيئة سيعتاد هذه السلوكيات وسيراها طبيعية، والأدهى من ذلك حين يكون ديدن بعض العوائل الانتقاص من الفئات المختلفة ونعتهم بصفات عنصرية، وهذه كارثة في هذا العصر الذي اندمج فيه الجميع وأصبح العنصري هو المنبوذ وليس المختلف. ولكن، هل هذا عذر لأن يصر الشخص على سلوك منبوذ يعرقل تقدمه ويحرمه من الفرص؟ أم كأي شخص بالغ عاقل سيحاول أن يطور من نفسه ويهذب شخصيته لتكون سلوكياته مقبولة اجتماعيا، وبالتالي تصبح عنده فرص للتقدم على عدة مستويات اجتماعية ووظيفية؟ ما الصحيح في هذه الحالة؟ قد يكون الأقرب للمنطقي هو أن يتفهم الشخص بأن الطباع التي يظهرها للناس هي بوابته للاندماج وبناء العلاقات، وأن عليه أن يتحمل مسؤولية سلوكياته ويتوقف عن لوم بيئته ونشأته، فبالتالي، عليه ببساطة أن يتبع الهدي النبوي ويخالق الناس بخلق حسن ويسعى جاهدا لتغيير نفسه، وليبدأ ذلك عليه أن يتصرف خلاف طبيعته وهذا يستلزم جهدا كبيرا، فإذا كانت ردة فعلك الطبيعية هي أن تصرخ أو تشتم إذا توترت، فأن تراقب نفسك وتمسك لسانك حتى لا يتلفظ بقول قبيح هو فعل مجهد ويستلزم طاقة، ولكنها مع الوقت ستتحول لعادة، وفعلا كل عادة من الممكن أن تتغير إذا كانت الشخص واعيا وراغبا بشدة في التغيير، وكما قال الحكماء، إنما الصبر بالتصبر وإنما الحلم بالتحلم.
ولكن، وهنا لكن كبيرة جدا، ماذا إذا كانت طبيعتك هي نفس منطلقة ومليئة بالطاقة ومفعمة بالحياة؟ ماذا إذا كانت شخصيتك الأصيلة هي شخصية متعاطفة ومحبة وقادرة على التواصل مع الجميع دون أي حدود أو حواجز؟ ماذا إذا حباك الله بطريقة متفردة في التعامل تجعلك قريبا من الجميع؟ المنطقي هنا أن هذه نعمة كبيرة تستحق الحمد والشكر، فالكثيرون يجاهدون ليتمكنوا من التواصل مع الجميع بشخصياتهم الأصيلة ويبذلون قصاري جهدهم لتطوير مهاراتهم، فإذا كانت هذه حقيقتك، فهنيئا لك ونغبطك على هذا التفرد ونسأل الله أن يعطينا مما أعطاك.
السؤال هنا، هل الكل يستحق حقيقتك؟ ماذا عن من يرى في بساطتك وعفويتك ضعف وقلة “بريستيج”؟ ماذا عن من يرى في ابتسامتك الد ائمة وضحكتك الغير متكلفة تباسط ممجوج؟ هل يستحق هؤلاء حقيقتك؟ قد يميل أغلبنا للرأي القائل بأن على هذا الشخص التمسك بطبيعته بالذات إذا كان على درجة كبيرة من الوعي ويعلم تماما أن تصرفاته متوائمة تماما مع الزمان والمكان، فهذا العالم المتقلب الملئ بالقسوة بحاجة للطيبين الهينين، وبصراحة، لماذا نحمل الشخص الطيب عبئ الادعاء؟ التصرف عكس الطبيعة مهما كانت جهاد كبير . تخيل المجهود الكبير الذي يحتاجه الشخص ليكبت شتيمة بذيئة اعتاد لسانه أن يطلقها في حال داس أحد بالخطأ على قدمه أو سقط عليه خلال قيادة السيارة؟ مجهود خارق حقيقة، فطبعنا يغلبنا مالم ننتبه، وللأسف أضعاف هذا المجهود سيحتاجه الشخص الذي اعتاد التبسم والتباسط مع الجميع ليكبح ابتسامته ويلجمها ويبتلع ضحكة أوشك أن يطلقها. هذا المسكين سيحتاج لتلقين نفسه عشرات المرات حتى لا تغلبه عفويته ويبتسم ابتسامة عريضة يراها من أمامه تصرف مخالف للبريستيج.
هل يستحق الطبع الطيب هذا المجهود لكبحه؟ ما الأولى هنا؟ التمسك بالطبع الطيب حتى لو لم يستحقه الآخرون أم بذل المجهود الكبير حتى نعطيهم ما يستحقون؟ فلماذا نعطي ابتسامتنا وروحنا الطيبة لمن لا يستحقها؟
ما الأجدى هنا؟ ما الأفضل؟ ما الأذكى؟ أخبروني إذا عرفتم.
ودمتم بخير،
هتون، ٣٠/٧/٢٠٢٥