خلاصة RSS

Monthly Archives: جويلية 2025

نكذب أم نتجمل؟

اعترف بلا أي خجل بأن فارس أحلامي ومنتهى آمالي حين كنت مراهقة هو الفنان الكبير الراحل أحمد زكي. لكم أعشق هذا الفنان. نظراته العميقة، تعابيره القوية، طريقة تقمصه للأدوار والتي كانت تجعل قلبي ينخلع من مكانه إذا صرخ أو تصرف بعنف في أحد المشاهد، وفي نفس الوقت، كانت مشاعري الغضة تذوب خلال المشاهد الرومانسية والتي لم تكن تخلو من العنف كذلك، كان ولازال بالنسبة لي أحد أفضل الفنانين في تاريخ الفن المصري الذي يمتد لأكثر من ١٢٠ عاما، واستغرب جدا ممن يقول بأنه رحمه الله كسر الصورة النمطية لشكل البطل السينمائي الوسيم، فلم أكن أراه فقط وسيما، بل جميلا بهيا، وسمرة بشرته تلك كانت ميزة وعلامة فارقة، وأدائه السحري أصلا لم يكن يدع مجالا للتركيز على أي شئ آخر.

تذكرته رحمه الله وأنا أمر بمرحلة عميقة من التفكر. أجد نفسي أمعن التفكير كثيرا في سؤال “هل يجب أن يكون الإنسان حقيقيا في تعاملاته وتصرفاته؟” طبعا الجواب الطبيعي والأسلم هو “نعم بالطبع”. وأجدها إجابة منطقية جدا، فمن منا يحب التعامل مع المدعيين؟ من منا لا يشعر بالاشمئزاز من الأشخاص الذين يدعون خلاف حقيقتهم ويظهرون أشياء لا تمت لهم بصلة فقط ليحققوا أهداف معينة؟ تذكرت فيلم الراحل أحمد زكي “أنا لا أكذب ولكني أتجمل” والذي يحكي قصة شاب فقير يعمل والده في حفر المقابر، ويقع في حب إبنة كاتب كبير زاملها في الجامعة والتي كان خلال دراسته فيها يدعي بأنه إبن إحدى العائلات المرموقة، ليس كذبا حسب منظوره، ولكن تجملا ورغبة بالحصول على القبول في أوساط لم تكن لتمنحه فرصة للتواجد فيها بهويته الحقيقية. وطبعا، وحسب القصة الكلاسيكية، تعاطفت معه الفتاة في البداية وأحبته صدقا، ولكن النهاية لم تكن سعيدة، وبالطبع، لم يتفهم أحد حاجة الطالب الفقير للتجمل والهرب من واقع فرض عليه ولم يختره.

أفهم جدا أن يحاول الإنسان التجمل والهرب من واقعه، ومن يقول بأنه فخور بواقع لا يدعو للفخر فغالبا هو يكذب على نفسه، هناك فرق بين أن تقبل واقعك وتواجهه بشجاعة وتحاول تغييره وبين أن تكون فخورا به وغارقا فيه دون أي رغبة بالخروج منه، هذا في حال كان الواقع هو أمر فرض عليك بحكم بيئتك ونشأتك، فكثيرون ولودوا ونشأوا في بيئات بسيطة وكافحوا ليتلقوا تعليما مميزا وحاولوا بشتى الطرق تحويل واقعهم البسيط لمستقبل واعد، وفي الطريق سحبوا معهم أفراد عائلاتهم وارتقوا في السلم الاجتماعي وكانوا هم من كسر دائرة الفقر في محيطهم.

ولكن ماذا إذا كانت حقيقتك هي عبارة عن نفس قبيحة غارقة في الحسد والحقد؟ ماذا إذا كنت شخصا سفيها طويل اللسان عالي الصوت؟ هل تظهر للناس على حقيقتك وتتشدق بهراءات (هذا أنا بلا اعتذار وعلى الجميع تقبل حقيقتي)؟ ولإحقاق الحق، الكثير من سيئ الخلق وسليطي اللسان هم نتاج بيئاتهم وتربيتهم، فالأم تتشدق وتشتم، والأب يؤذي جيرانه بلسانه وسلوكه والعائلة كلها تصرخ وتتشدق بالقبيح من القول، فالطبيعي أن من ينشأ في هذه البيئة سيعتاد هذه السلوكيات وسيراها طبيعية، والأدهى من ذلك حين يكون ديدن بعض العوائل الانتقاص من الفئات المختلفة ونعتهم بصفات عنصرية، وهذه كارثة في هذا العصر الذي اندمج فيه الجميع وأصبح العنصري هو المنبوذ وليس المختلف. ولكن، هل هذا عذر لأن يصر الشخص على سلوك منبوذ يعرقل تقدمه ويحرمه من الفرص؟ أم كأي شخص بالغ عاقل سيحاول أن يطور من نفسه ويهذب شخصيته لتكون سلوكياته مقبولة اجتماعيا، وبالتالي تصبح عنده فرص للتقدم على عدة مستويات اجتماعية ووظيفية؟ ما الصحيح في هذه الحالة؟ قد يكون الأقرب للمنطقي هو أن يتفهم الشخص بأن الطباع التي يظهرها للناس هي بوابته للاندماج وبناء العلاقات، وأن عليه أن يتحمل مسؤولية سلوكياته ويتوقف عن لوم بيئته ونشأته، فبالتالي، عليه ببساطة أن يتبع الهدي النبوي ويخالق الناس بخلق حسن ويسعى جاهدا لتغيير نفسه، وليبدأ ذلك عليه أن يتصرف خلاف طبيعته وهذا يستلزم جهدا كبيرا، فإذا كانت ردة فعلك الطبيعية هي أن تصرخ أو تشتم إذا توترت، فأن تراقب نفسك وتمسك لسانك حتى لا يتلفظ بقول قبيح هو فعل مجهد ويستلزم طاقة، ولكنها مع الوقت ستتحول لعادة، وفعلا كل عادة من الممكن أن تتغير إذا كانت الشخص واعيا وراغبا بشدة في التغيير، وكما قال الحكماء، إنما الصبر بالتصبر وإنما الحلم بالتحلم.

ولكن، وهنا لكن كبيرة جدا، ماذا إذا كانت طبيعتك هي نفس منطلقة ومليئة بالطاقة ومفعمة بالحياة؟ ماذا إذا كانت شخصيتك الأصيلة هي شخصية متعاطفة ومحبة وقادرة على التواصل مع الجميع دون أي حدود أو حواجز؟ ماذا إذا حباك الله بطريقة متفردة في التعامل تجعلك قريبا من الجميع؟ المنطقي هنا أن هذه نعمة كبيرة تستحق الحمد والشكر، فالكثيرون يجاهدون ليتمكنوا من التواصل مع الجميع بشخصياتهم الأصيلة ويبذلون قصاري جهدهم لتطوير مهاراتهم، فإذا كانت هذه حقيقتك، فهنيئا لك ونغبطك على هذا التفرد ونسأل الله أن يعطينا مما أعطاك.

السؤال هنا، هل الكل يستحق حقيقتك؟ ماذا عن من يرى في بساطتك وعفويتك ضعف وقلة “بريستيج”؟ ماذا عن من يرى في ابتسامتك الد ائمة وضحكتك الغير متكلفة تباسط ممجوج؟ هل يستحق هؤلاء حقيقتك؟ قد يميل أغلبنا للرأي القائل بأن على هذا الشخص التمسك بطبيعته بالذات إذا كان على درجة كبيرة من الوعي ويعلم تماما أن تصرفاته متوائمة تماما مع الزمان والمكان، فهذا العالم المتقلب الملئ بالقسوة بحاجة للطيبين الهينين، وبصراحة، لماذا نحمل الشخص الطيب عبئ الادعاء؟ التصرف عكس الطبيعة مهما كانت جهاد كبير . تخيل المجهود الكبير الذي يحتاجه الشخص ليكبت شتيمة بذيئة اعتاد لسانه أن يطلقها في حال داس أحد بالخطأ على قدمه أو سقط عليه خلال قيادة السيارة؟ مجهود خارق حقيقة، فطبعنا يغلبنا مالم ننتبه، وللأسف أضعاف هذا المجهود سيحتاجه الشخص الذي اعتاد التبسم والتباسط مع الجميع ليكبح ابتسامته ويلجمها ويبتلع ضحكة أوشك أن يطلقها. هذا المسكين سيحتاج لتلقين نفسه عشرات المرات حتى لا تغلبه عفويته ويبتسم ابتسامة عريضة يراها من أمامه تصرف مخالف للبريستيج.

هل يستحق الطبع الطيب هذا المجهود لكبحه؟ ما الأولى هنا؟ التمسك بالطبع الطيب حتى لو لم يستحقه الآخرون أم بذل المجهود الكبير حتى نعطيهم ما يستحقون؟ فلماذا نعطي ابتسامتنا وروحنا الطيبة لمن لا يستحقها؟

ما الأجدى هنا؟ ما الأفضل؟ ما الأذكى؟ أخبروني إذا عرفتم.

ودمتم بخير،

هتون، ٣٠/٧/٢٠٢٥

ارفعي طاقتك الأنثوية، أيتها التي ليست أنثى

كنت استمع صدفة لمقطع على موقع انستجرام وصدف أن يكون للدكتور محمد الحاجي، الباحث في علم السلوكيات الإنسانية والذي صدف أيضا أنني إحدى متابعاته وسبق لي أن شاركت في أحد حلقات بودكاست “آدم” والتي كانت عن الفقد، وحقيقة أكن الكثير من الاحترام والتقدير للدكتور محمد، والمقطع الذي سمعته ليس فقط أثار اهتامي، بل حفزني وجعلني أرغب جدا بالكتابة. كان يتحدث عن الحالة التي تصيب الكتاب بمختلف اختصاصاتهم، وهي حالة ال writer block أو الانحباس الكتابي كما أحب أن أسميها، والذي عكسه تماما حالة الانصباب أو ال writer flow وهي حالة من انسيابية الكتابة تجعل يد الكاتب تجري دون أن يشعر ويكتب باستمتاع شديد لدرجة أنه قد ينظر فجأة للساعة فيجد أن الوقت قد انقضى بسرعة شديدة، وهذا عادة ديدن الأوقات الطيبة وأوقات الإنجاز، لا نشعر فيها بمرور الوقت. الحل الذي قدمه الدكتور محمد الحاجي لحالة الانحباس الكتابي هي أن يبدأ الكاتب بالكتابة، حتى لو بكتابة سيئة لاهدف لها، ولا يتوقف حتى تختمر الفكرة، وأدرج في سياق كلامه (ابدأ بشئ تافه).

يا سلام عليك يا دكتور محمد، لله درك. لقد ألهمتني وأجريت يدي للكتابة عن موضوع لا علاقة له بتاتا بالانحباس الكتابي ولا الحراري ولا العاطفي ولا أي نوع من الانحباسات، ولكنها التفاهة يا أخي. جعلني الدكتور محمد أتمعن في ما يحيط بنا من تفاهة واتعجب، لماذا لا يصاب التافهون بالانحباس التفاهي؟ لماذا لا ينبض معينهم من المزيد من التفاهة؟ هل هم بدأول بفعل تافه واحد فبالتالي جرت التفاهات بعضها فلم يعد هناك أي مشكلة بالمزيد؟ 

كشخص معروف بكثرة التفكير وأحيانا جلد الذات، كنت أقول لنفسي (هتون مالك شغل، كل واحد يسوي اللي يبغاه، التفاهة مفهوم نسبي)، ولكن هل حقا هي مفهوم نسبي؟ هل كل ما ينشر على وسائل التواصل من محتوى يكاد يكون سببا رئيسا في ضعف مخرجات التعليم وتراجع نسب الذكاء والفهم عند الناس هو شئ نسبي لا يصح أن نسميه تفاهة؟ حين يهجم عليك محتوى سفيه من شخصيات لا هم لها سوى التسوق والشراء وتسويق أساليب حياة غير منطقية ألا يتسبب ذلك في التقليل من شأن الأمور الأكبر؟ حين تضج وسائل التواصل بمحتوى ظاهره التوعية ولكن باطنه فارغ ويسوق بكل سطحية للتمحور حول الذات وتسفيه قيم العائلة والتضحية ألا يصح أن نسمي هذا محتوى تافه وفارغ وللأسف خطر؟ 

للحق، لا يقلقني المحتوى التافه السطحي الذي لا يختلف عليه اثنين، فلا خلاف أبدا أن تلك الفتاة التي لا هم لها سوى (هاي بنات، جبتلكم اليوم منتج يموووووت أنا ما استغنى عنه)، وحقيقة لو استخدمت كل الأشياء التي تدعي (أنها لا تستغني عنها) لما وجدت وقتا للمزيد من الإعلان عن المنتجات، إجمالا هذا المحتوى يتابعه الناس وهم يعرفون أنه لا فائدة من ورائه، وأقصى الخسائر هي خسائر في الأموال وأحيانا نفسية (خائسة) بسبب كثرة المقارنات والشعور أن الآخرين حياتهم أسلس وأسهل، ولكن ماذا عن المحتوى السطحي الذي ظاهره الرحمة وباطنه من قبله العذاب؟ ماذا عن ذاك المحتوى الذي يدعي العلم استنادا على علوم زائفة لا إثباتات عليها مثل الطاقة والوعي والذكورة والأنوثة ويبني عليها برامج كاملة دون علم حقيقي ولا معرفة عميقة؟ ماذا عن تلك الجرأة التي تجعل من أشخاص يصممون برامج دون أي سند علمي وبمنتهى السطحية ويأخذون عليها الأموال من أشخاص أنهكهم التعب ويرغبون بتحسين حياتهم وتطوير أنفسهم؟

مررت مصادفة بأحد تلك الحسابات والتي مرت صاحبته بالكثير من المنعطفات في حياتها، مثلها مثل الكثيرات، لا شئ جديد ولا غريب ولا مستهجن،  بدءا من زواج في سن مبكرة ثم طلاق ثم زواج مرة أخرى يتخللها محاولات مشاريع ما بين فشل ونجاح، وتصور هذه الرحلة الطبيعية جدا وكأنها خوارق كونية لم يخلق مثلها في البلاد، وتسمي التكيف الطبيعي مع الظروف والتماهي معها (تشافي)، تقنعنا هذه المؤثرة بأن تجاوز الطلاق شئ يحتاج لدورات بآلاف الريالات وأنها لو عاد بها الزمن لما انتظرت سنوات طويلة لتتطلق ولقالت له (طلقني يا جاسم) عند أول خلاف لأن العمر عند هؤلاء الأشخاص ليس (بعزقة)، فلماذا تصبرين على شخص يشخر وهو نائم ولا ينشف حوض الغسيل بعد الاستخدام؟ لماذا مقاييسك لهذه الدرجة منخفضة؟ لماذا لا تتعلمين رفع الاستحقاق؟ لماذا لا تقتنعين داخليا أنك تستحقين رجلا معه خادم ينظف الحوض بعده ويلم غسيله ويفصله حتى تقوم الخادمة المختصة بالغسيل بالمهمة على أكمل وجه؟ لماذا تقبلين العيش مع رجل يشتري من محلات الجملة ومرتبط بأهله وعنده واجبات تجاههم؟ لماذا تهون عليك نفسك أن تسافري في الدرجة الاقتصادية؟  لماذا أنت هنا الآن ولم تسجلي بعد في رحلة ال retreat التي ننظمها أنا وزوجي الجديد الذي تزوجته بعد أن خلعت زوجي السابق وتركت له الأطفال ليربيهم وتفرغت أنا للتشافي؟ هيا سجلي ولا تضيعي المزيد من الوقت، اعتزلي ما يؤذيك وأعطني في الطريق الريالات والدولارات.

هذا المحتوى ملغم وخطر لأنه يتسلل للعقل بنعومة شديدة مستخدما بديهيات لا تحتاج لعاقل أو حصيف ليدركها، ويغلفها بغلاف شديد الجاذبية يجعلك تعتقد أن هذا علم مثبت ومدروس وقائم على أبحاث ودراسات قامت هي بها على منصة إكس ومن خلال جروبات الواتس اب، هذا المحتوى يجعلك تشعر بالذنب إذا كنت تعيش حياة طبيعية بها مشاكل ومسؤوليات وصراعات وتسميها (مقاييس منخفضة). هذا المحتوى يخالف السنن الكونية بعدالة تقسيم الأرزاق وأننا مختلفون في المقاييس وأن كوننا ولدنا ونشأنا في مجتمع وعائلة معينة يحتم علينا أمورا قدرية عادية وطبيعية وصراعات لا دخل لها بخفض أو رفع الاستحقاق، وأنه من الطبيعي والعادي جدا أن يكون هناك طبقات اجتماعية مختلفة، وكونك لا تنتمين للطبقة الأعلى فهذا لا يعني أن استحقاقك منخفض، بل لأن هذا قدرك وإذا أردت تغييره فعليك السعي والعمل وليس التسلق والجذب.

في القرون السابقة، كان من الصعب جدا على الإنسان تغيير طبقته أو مكانته المجتمعية. كانت المجتمعات مقسمة لطبقة النبلاء وأصحاب الأملاك والأموال والطبقة العاملة. وفي المجتمعات العربية كان هناك التجار والعاملون لديهم، وكان من الصعب جدا أن تختلط الطبقات أو تتغير وفعليا كان مصير الإنسان محكوم بميلاده ونشأته ومن الصعب جدا أن يغير هذا. نحن محظوظون في المجتمعات الحديثة بأنه أصبح من العادي جدا على المجتهد أن يغير طبقته المجتمعية، وليس فقط ذلك، بل يستطيع سحب عائلته بأكملها معه. مع توافر الفرص و زيادة الوصول للتعليم العالي، لم يعد الثراء والتميز المجتمعي حكرا على طبقة معينة، بل من العادي جدا أن تسمع عن شخص ولد وعاش في بيئة متواضعة وتمكن بجده واجتهاده من إكمال تعليمه ومن ثم تقلد وظائف مرموقة رفعت من إسمه ومن إسم عائلته وأصبح هو المقياس الجديد لمحيطه ومجتمعه، وسمعنا ولازلنا نسمع عن رجال أعمال بنوا إمبراطوريات دون الاستناد على إرث أو إسم العائلة أو القبيلة، وهذه أيضا سنة كونية لأن لكل مجتهد ونصيب والله سبحانه وتعالى لا يضيع عمل عامل ودائما سيجازى الإنسان على قدر سعيه، لكن أن يعتقد الشخص أنه “يستحق” فقط دون أن يحاول الأخذ بالأسباب المتوائمة مع هذه السنن، فهذا هراء محض وسطحية وبيع للأوهام، ولو كان في بائعي الوهم ومسوقي الدورات خيرا  لنفعوا أنفسهم بدل التكسب من أخذ الأموال من المساكين الذين ضاقت بهم الأرض بما رحبت ولم يجدوا سوى هذا الهراء  لينتشلهم من بؤسهم ويعيد لهم التوازن والاستحقاق المفقود.

كثير منا تأثر بهذه الدعوات، ولا يشترط أن يكون الشخص مغفلا أو محدود الذكاء حتى يصدق أو يتأثر. الكثير من المؤمنين بنظريات المؤامرة مثلا هم من المتعلمين والمثقفين، ولكن يجمعهم عدم القدرة على العيش مع عدم اليقين فيلجأون لتفسيرات تبدو لهم منطقية، فمن الأسهل على النفس البشرية أن تؤمن بوجود قوى تخفية تتحكم في العالم وأن الكورونا مؤامرة وأن لا شئ يحصل صدفة وأن كل الأمور مرتبطة بطريقة أو بأخرى. وبنفس المنطق، الكثير ممن يلجأ مثلا لنظريات الذكورة والأنوثة والاستحقاق هم أشخاص أنهكتهم محاولات تحسين حياتهم، فوجدوا في هذه الدعوات حلولا سحرية خلاف ما يقتضيه العلاج النفسي أو العلاج المعرفي السلوكي من وقت ومجهود وحتى أموال. 

في خضم هذه الفوضى وطوفان المحتوى السطحي التافه، قد يكون من المفيد العودة للأساس والاقتناع بأن لا أحد معصوم من التأثر، وأن من حق الإنسان على نفسه أن يقوم بعمل “فلتر” لما يغذي به دماغه، وهذه “الفلترة” التي يقوم به الشخص بكل وعي ستحميه من طوفان التأثر بكل ما يقال وينتشر. فالمرة القادمة، حين تقنعك إحداهن أن عزوبيتك المستمرة من سنوات طويلة هي بسبب طاقتك الذكورية وضعف استحقاقك وأن كل ما عليك فعله هو أخذ دورة رفع طاقة الأنوثة، فابتسمي وأغلقي أذنك وتوجهي لما ترينه أنت مناسبا من الأخذ بالأسباب بغض النظر عن نوعها، وإذا جاء أحدهم لييخبرك بأن السبب المستمر لخسارتك للأموال ليس بسبب قراراتك الخاطئة وضعف مهاراتك الاستثمارية، بل لأن طفلك الداخلي لديه مشكلة مع المال، فاغلق أذنك واذهب لمختص ليساعدك على بدء خطوات عملية مدروسة لتحسين وضعك. 

ودمتم بخير وعافية.

هتون