خلاصة RSS

الأمل الذي يحيي أم الخيبة التي تقتل؟

هذه إحدى المرات القليلة التي ابدأ فيها مقالا أو قصة بكتابة العنوان أولا، ولا أخفيكم أنني شعرت بمدى دراماتيكيته وتقليديته، لدرجة أنني قلت لعلي أغيره ل(هتون بين مطرقة الحقيقة وسندان الأمل)، وحقيقة لم لا؟ ألست تلك الأكاديمية والأستاذة الجامعية والتي من المحتم عليها أن تستخدم المطارق والسنادين والواقع والمأمول حتى تثبت ثقافتها ومواكبتها وكم المفردات الزاخر الفاخر الذي لديها؟

دعكم من كل هذا، الحقيقة، المجردة والصرفة دون أي محاولات للفزلكة، هي أنني استلهمت موضوع المقال كله من مسلسل شاهدته على نتفلكس. والحقيقة الأخرى هي أنني شاهدته نظرا لمروري بفراغ مسلسلي، وهي إحدى تلك الحالات التي تنتاب الإنسان حين ينتهي من مشاهدة مسلسل جيد ويجد نفسه فارغا تماما دون أي عمل فني يستمتع بمشاهدته بعد يوم طويل من العمل الذي لا ينتهي. أتعلمون تلك الحالة التي تجعلكم تتطلعون للعودة لكنبتكم المفضلة حتى تتابعوا المسلسل الشيق الذي شدتكم أحداثه؟ لا أحب أبدا انتهاء هذه الحالة، وأجد نفسي أحيانا مضطرة لتجربة أي مسلسل عشوائي لعلي أجد فيه ضالتي، ولم أجدها في هذا المسلسل أبدا، ولكن عزائي أنه كان مسلسلا قصيرا من ست حلقات، وتم تصويره بالكامل في ساحل أمالفي الإيطالي، فأكملت المشاهدة بنية التغذية البصرية والتي لم يبخل بها المسلسل أبدا.

قصة المسلسل الأساسية هي وقوع امرأة في الستين من عمرها في حب شاب يبلغ نصف عمرها، ونظرا لكونها وريثة لفندق مطل على ساحل أمالفي، فهذا جعل أولادها (تركبهم كل العفاريت بدرجات متفاوتة) نظرا لقناعتهم بأن هذا الشاب لا بد أن وراءه مصائب وكوارث وأنه من المستحيل أن يحب شاب وسيم امرأة ستينية، لابد أن المال هو السبب الرئيس لهذا الانجذاب. قصة كلاسيكية معروفة وصراعات لا جديد فيها، المختلف الوحيد في هذا المسلسل هو النهاية، واحذركم بأن هنا حرق لمن أراد مشاهدة المسلسل الذي لم أذكر رسمه، حيث أنه رغم اكتشاف المرأة لكل خفايا الشاب المظلمة وماضيه الغير مشرف وأن جزء من علاقته به كانت لأجل المال رغم أنه فعليا أحبها وتعلق بها، إلا أنها قررت وبكامل إرادتها أن تمضي قدما في العلاقة التي أنعشت قلبها وجعلت روحها تزهر وأذاقتها سعادة واكتفاء لم تشعر بهم منذ أن انفصلت عن زوجها والذي خانها مع أعز صديقاتها، وكانت آخر جملة في المسلسل هي مقولة لكاتب إيطالي ترجمتها للعربية “الخدعة التي تهب الحياة، أفضل من الموت بسبب خيبة الأمل”.

ولم أتمكن من تجاوز العبارة.

أفهم جدا أن الشخص بسيط الفهم سطحي الإدراك قد يسعد بالخدعة لأنه فعليا يصدقها، فليس الجميع على نفس الدرجة من الوعي والذكاء بحيث يفرقون ما بين الحقيقة والوهم، ولعلها قسمة الحق أن هناك أناس يتمتعون براحة البال رغم بساطة ورقة حالهم، فلا مشكلة لديهم بعيش الوهم وتصديقه والشعور بالسعادة بمقتضاه. أما من أنعم الله عليه (أو ابتلاه) بالوعي والواقعية وإمكانية رؤية واستشفاف أبعاد الأمور من عدة زوايا، كيف بالله عليكم سيرضى بالخديعة وإن وهبته الحياة؟ هل يستطيع الإنسان العاقل أن يستمتع بالخديعة؟ أم لعله لا يستمتع بها ولكن يدرب نفسه على الاستمتاع بتبعاتها مع العلم الكامل أنها خديعة؟ فمثلا تلك الزوجة التي تعلم يقينا أن زوجها متزوج بامرأة أخرى ولكن تدعي عدم المعرفة حتى تستمتع بمكتسبات إبقاء زواجه الآخر في الخفاء، فلا حقوق واضحة للزوجة الثانية ولا واجبات أسرية مترتبة على ذلك. أو لعله ذاك الموظف الذي يعلم بما لا يدع مجالا للشك أن مديره لا يحبه ولا يستسيغ العمل معه، ولكنه يقرر أن لا يبدي أي ردة فعل ناحيته حتى لا يصبح العداء واضحا ويخسر مكتسبات وظيفته. أو لعلها فعلا تلك السيدة في المسلسل والتي برغم إدراكها للحقيقة، قررت أن تتمسك بالخديعة التي وهبتها الحياة حتى لا تموت من الخيبة.

هل العاقل حقا هو الذي يجير الأمور لمصلحته حتى وإن ظهر أمام الآخرين بمظهر الشخص المغفل؟ هل فعليا مقولة “إنما السيد المتغابي” صحيحة ودقيقة؟ إذا كان العاقل يكيف الأمور القدرية التي تحصل له ويقلبها لصالحه، ولكن هل يقبل هذا العاقل أن ينجرف بكامل قواه العقلية ويذهب بقدميه لوضع فيه خديعة فقط لأنها منحته الأمل والحياة؟

دائما ما يوصف العاقلون والواقعيوون بأنهم قاتلون للمتعة، وذلك لأنهم لا يفتأون عن قول الحقيقة حتى لمن لا يريدها وأولهم أنفسهم، فتجدهم يحرمون أنفسهم من الكثير من المتع اللحظية والمغامرات لإدراكهم التام أنها ليست حقيقية وأنهم سيتحملون التبعات كاملة، ولكن، أليس هناك منطقة وسطى؟ مذا إذا كان الشخص مستعدا لتحمل التبعات؟ فهاهو الشخص ينجرف في علاقة حب نهايتها واضحة جدا، وحين تخبره بذلك يبتسم ويقول (والله عارف ومستعد اتحمل، لكن أحبها والله ما أتركها الآن)، هل هذا شخص سعيد أم غبي؟ وما هو الأهم في الأساس، أن نكون سعداء يرانا الآخرون أغبياء أم تعساء ويربتون على أكتافنا ويمدحون ذكاءنا؟

لعلها اختيارات، كما هي غالبية أمور الحياة، وها هي تمضي.

هتون

٢٨/١/٢٠٢٥

أفاتار غير معروف

About Hatoon

A writer, Assistant Professor and media personnel. I always claim I am cooool but I am not, check my youtube channel Noon Al Niswa ww.youtube.com/user/NoonAlniswa

أضف تعليق