١٢/١٠/٢٠٢٣
لم يكن صباحا عاديا، فقبل أسبوعين بالضبط، تحديدا يوم الخميس بتاريخ ٢٨/٩/٢٠٢٣، دخلت أمي حبيبتي المستشفى وهي مصابة بجلطة في القلب، وكان القرار بأنه ونظرا للحالة الصعبة التي دخلت بها وخوفا على حياتها، فيجب أن تمكث في العناية المركزة. ومن يومها وحياتنا كانت متمحورة حول موعد الزيارة اليومية، وأيضا حول كيفية التحايل بحيث نتمكن من البقاء وقتا أطول حتى لا نتركها وحيدة. ومكثت فقيدتي أسبوعان في العناية المركزة، تأرجحت حالتها بين التحسن الطفيف والسوء، حتى أسلمت الروح لبارئها يوم ١٢/١٠/٢٠٢٣.
خلال ذاك الصباح، استيقظت مبكرا كعادتي، وتلك الأيام كنت أجر نفسي جرا نظرا لإصابتي بكسر في قدمي وضعت على إثره القدم في الجبس واضطررت لأخذ إجازة مرضية، فلم أكن في مقر عملي، بل في المنزل استعد للذهاب لزيارة حبيبتي وقت السماح بالزيارة الساعة الواحدة ظهرا. حوالي السابعة والنصف صباحا، كتبت شقيقتي في الجروب بأنها ذاهبة للمستشفى لأنه تم الاتصال بها لتأتي نظرا لاحتمال وضع أمي على جهاز التنفس الصناعي، وطمأنوها بأنه إجراء احترازي حتى لا تسوء حالتها وأنه لا شئ مستعجل. قلت لنفسي حسنا، لعله خير، فهم بالتأكيد يعلمون ما يفعلون ولو كان هناك طارئ لأبلغونا فالمستشفيات لا تجامل، ولكني قررت ألا انتظر حتى موعد الزيارة، جررت نفسي مرة أخرى باستخدام العكازات وقررت الخروج حالا، بعدها بقليل، بدأت باستقبال اتصال من والدي يسألني أين أنا، أبلغته أنني في المنزل، طلب مني بهدوء الاستعداد للطلوع لمكة والمجئ حالا للمستشفى. لم اسأل كثيرا، فأنا أصلا استعد للذهاب، ودخلت في حالة غريبة لا أعرف وصفها، صوت يدوي في رأسي أن الأجل حان، ولكن هناك صوت آخر ينكر ذلك تماما، فكيف؟ لا يمكن. قبل أن تصاب أمي بالجلطة كانت في تمام جمالها وبهائها وعافيتها، كانت مسافرة وعادت لتحتفل معنا باليوم الوطني في البحر كعادتنا السنوية، وحضرت بعدها مناسبات، فكيف هكذا ينتهي كل شئ؟ لا مستحيل. هذا فقط عارض، وستقوم منه، فرودة قوية، فرودة لا تستسلم، ستقوم وكما يقولون (كله يصير حكاية). وما بين اتصال من ابنة عمي وابنة خالتي وركوبنا جميعا في السيارة لنتجه لمكة، سلمنا جميعا أن روح أمي فاضت لخالقها وأن الذي فعليا أصبح حكاية هي فرودة ذاتها. في لمح البصر، أصبحت أمي الجميلة البهية، صاحبة الحضور القوي، الإنسانة المتنوعة التي جمعت كل المتناقضات بتوازن عجيب، أمي التي عاشت حياة عريضة كلها تجارب وربت ستة من الأولاد لكل واحد منهم حكاية ورواية، فجأة أصبحت ذكرى، وأصبح الضمير الوحيد الذي يستخدم لها هو ضمير الغائب، ولن يكون لها نصيب من أخوات كان سوى كان نفسها. يا الله يا الله، الحمد لله على قضاءه وقدره وجميل صنعه، يا لطول ذاك اليوم، يا لعجائبه وغرائبه، ذاك اليوم هو تاريخ حياتنا الجديدة، فما قبل فرودة هو كون، وما بعدها هو كون آخر تماما.
مر عام يا حبيبتي. هل تصدقين ذلك؟ عام كامل مررنا خلاله برمضان وعيدين وبداية عام وفصل صيف. أخيل لك خلال حياتك الحافلة كيف أن غيابك سيغير معالم الأشياء ويخلق لها معاني أخرى؟ أكنت تعلمين أن رحيلك سيخلف كل هذا الحزن والفراغ؟ لقد كان عاما ثقيلا يا حبيبتي. ماذا نقول وماذا نحكي. أخبرتك مسبقا عن بعض الأحداث، ونعم، هناك أحداث أخرى سعيدة، أنت يا حبيبتي لم تحبي يوما الإفراط في الحزن. كنت تدفنين أحباءك وتحزنين وتعاودين ممارسة الحياة بانفتاح ويقين، كان شعارك دائما (لازم نرضى بقضاء الله، ما نجزع)، ولعلنا سرنا على خطاك. نعلم أنك في مكانك المريح والبارد تشاهدين وتسمعين، أكاد أجزم أيضا أن دعاءك لي لازال مستمرا. هل أخبرتك قبلا يا فرودة أن أصعب العادات التي كان علي تعلمها بعد رحيلك هو الدعاء لنفسي؟ كانت هذه مهمتك، ولم تغفلي يوما عنها، فأنت الذكارة الشكارة الصوامة القوامة عاشقة ربها ونبيه، لكم كان وجودك سندا وأمانا، ووفاتك رغم الألم والوجع والفراغ كانت درسا عظيما لكيف تصنع حياة عريضة وتترك أثرا لا يمحى، وأنت تركت بصمة في قلب كل من عرفك، قد يكون هذا أول عام، ولكن أمثلك ينسى؟
أبشرك يا نور عيني بأن صدقاتك الشهرية لازالت مستمرة، فقد تكفل بها إبنك البار محمد، وهاهي نفس البيوت لازالت مفتوحة بإحسان أنت تسيدتيه، هل أبلغتك بأن كل من كان يساهم معك شهريا في الصدقةكان جل اهتمامهم بعد ترقيك هو كيف سنستمر على العادة التي سنتها فريدة؟ يا حبيبتي، عملك لن ينقطع، نيتك الصادقة لمساعدة المستضعفين أثمرت وستظل مستمرة. أبشرك أيضا بأننا كلنا بخير، وبأن بعض الأمور التي كانت دائما مصدر قلق لك في حياتك بدأت تنفرج، والقادم بإذن الله أفضل. فرودة، لم ننساكي لحظة، لقد اشتقت لك جدا، ولا أعلم لم أنا تحديدا لا أحظى بزيارتك لي في المنام. منذ ترقيك وأنا لم أرك سوى مرات لا تعد من قلتها، وفي كل مرة بنفس الطريقة ولا أرى ملامح وجهك الجميلة، أرجوك يا حبيبتي زوريني وأعدك أنني سأتصرف بطريقة جيدة، المهم أن أراكي.
نعم، مر عام، والحمد لله على كل حال، نسأل الله أن يجمعنا بك عند مستقر رحمته، في جنة لا وصب فيها ولا نصب.
هتون،
١٢/١٠/٢٠٢٤