خلاصة RSS

Monthly Archives: نوفمبر 2023

أربع أسابيع عجاف

ها قد مرت الأسابيع يا فرودتي الحبيبة، يا من اشتقت لها شوقا أعجز عن وصفه، في مكانك لا أظنك تعدين الأيام، ولعل عالم البرزخ الذي أنت فيه الآن أيامه وساعاته ليست كما نعد ونحسب. لا أدري، ما أنا واثقة منه تماما وهذا ظني برب العالمين وظنك أنت يا حبيبة ربها وعاشقة نبيه، أنك في مكان جميل وبارد وبهي، أنت هناك جميلة كما عشت وكما رحلت. وحقيقة، ما حاجتك في مكان ارتقاءك لعد الأيام وحساب الساعات والسنين والأشهر؟ نحن نفعل ذلك لأننا ننتظر شيئا. ننتظر آخر الشهر لنقبض رواتبنا، آخر اليوم لنعود لمنازلنا ونرتاح، آخر الأسبوع لنلقى أحبة ونجتمع بهم، ننتظر رمضان لنصومه ونقوم ليالية، والعيد لنحتفل ونتبادل الهدايا،دائما هناك عمل وترقب، لكن هناك؟ لا عمل، فقط حصاد، ولعله لقاء أحبة سبقونا وأنت يا حبيبتي سبقك كثيرون، والدك ووالدتك، شقيقيك الحبيبين عبد الباري وعبد الجليل، أعمامك وأخوالك والكثير من أحباءك، أنت الآن فعليا تلقين الأحبة.

لكن ماذا نفعل نحن بإحصاء الأيام؟ أتعلمين أنك اليوم أكملت أربع أسابيع كاملة مترقية عند رب العالمين؟ يا لها من أسابيع طوال عجاف. إذا كنت أنت في لقاء أحبة، ماذا تراه من فقد الأحبة فاعل؟ ترقب آخر الأسبوع والذي كان لقاءك فيه هو لب الموضوع وجوهره، كيف هو الآن بدونك؟ أأخبرك أنه بارد باهت لا طعم له؟ هل هو حقا كذلك؟ أتعلمين، وأرجوك ألا تغضبي مني، رحيل جسدك لم يصحبه رحيل روحك، وأنت تعلمين جيدا بهاء روحك وقوة حضورك. روحك يا حبيبتي هي من يلون اجتماعاتنا في أي مكان كنت تزينينه بطلتك الأنيقة وحديثك الحماسي وأطباقك اللذيذة. والله ثم والله، لازلت أشعر بحرارة وجودك. هل هو جبر رب العالمين حتى نترضى ونتصبر؟ لعله كذلك، وهذا ما يجعلني أتسائل أكثر، رغم أنني بإذن الله راضية ومسلمة بقضاءه وقدره تعالى، لماذا في المرة الوحيدة حتى الآن والتي زرتيني فيها في المنام فعلت أنا ما فعلت. مرة أخرى، لا تغضبي مني وتقولي لي كعادتك “أصلا إنت دايما مجنونة”، ولكن أنا حقا لا أعرف لماذ تصرفت بهذه الطريقة. رأيتك وكأننا في مكان سفر، وهناك دلالات بأنه سفر طويل، رأيتك بنفس الصورة التي كنت عليها قبل ترقيك، لعلك أصغر قليلا في العمر، وفي اللحظة التي رأيتك فيها، قلت بكل اللوعة التي أشعر بها “ماما من جد إنت هنا؟ إنت حية ما متي؟ من جد؟ إنت حية؟”، نعم كنت ملتاعة، كنت وكأني غريق يتمسك بقشة، ولم يعجبك ذلك. نظرت لي تلك النظرة المعاتبة التي أعرفها جيدا، وأكملت طريقك. وأنا ازددت لوعة.

فريدتي، أقسم بالله أنني راضية، كلنا راضون، ونعلم أنك في مكان أفضل.ولكن سامحينا إذا كانت قلوبنا ممزقة من فقدك. أكنت تتوقعين أن يمر رحيلك مرور الكرام؟ هل كنت تتوقعين أنها مسألة ثلاثة أيام عزاء ثم ينتهي كل شئ ونكمل حياتنا كأن شيئا لم يكن؟ لا يا حبيبتي، لا يا فقيدة روحي، أنت أغلى من ذلك، بكثير، والله بكثير، وإن كنت لا تعزين على ربك، وهو وحده من وعدنا بالدرجات العلا إذا صبرنا على مصيبة الموت، هو من خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملا، ونسأله تعالى حسن الأدب معه تعالى. لا نقول يا الله إلا ما يرضيك، إنا لله وإنا إليه راجعون، هم السابقون ونحن اللاحقون، والحمد لله على قضاءه وقدره وجميل صنعه.

هتون،

الخميس، ٩/١١/٢٠٢٣

أيامنا بعد الفريدة (٣)

لا أعلم لماذا أضفت أرقاما متسلسلة لهذه التدوينات، فحتما ترتيبها ليس متتابعا. من قال بأن التعامل مع فقد الفريدة يسير وفق وتيرة معينة وبتسلسل معروف مسبقا؟ هي تجربة جديدة ومتفردة الثابت فيها بإذن الله هو الرضا واليقين بالجبر، عدا ذلك فهو طوفان مشاعر مختلفة ومتضاربة وغريبة وجديدة، شئ يعكس تفردنا كبشر، وفرادة فريدتي حبيبتي والتي أشعر أنني أفتقدها فقدا عظيما رغم أنني قررت أن أتعامل مع الوضع حاليا وكأنها مسافرة لمكان تحبه سفرا مفتوحا. لطالما عشقت فريدتي السفر ، وكرفيق فيه، فهي أكثرنا طواعة وإيجابية وانفتاحا للتجارب الجديدة فيه. لا نذكر يوما أنها فرضت رأيها أو اعترضت، وفي المرات التي لا تذكر والتي تعترض فيها، تفعل ذلك بطريقة سهلة تضمن أن لا تتأثر المتعة ولا يتكدر أحد. إحدى هذه المرات كانت حين رافقتني فيها لحفل تخرجي ببريطانيا والتي قررنا فيها أن نقوم برحلة متكاملة نجوب فيها أرجاء المملكة المتحدة، وآخر محطة كانت معشوقتي لندن. ولمن يعرف فاتنة العواصم المغرورة تلك، يدرك أن ٨٠٪ من المتعة فيها تكمن في المشي في شوارعها واكتشاف أزقتها، ولا أحد يعشق المشي وعلمنا حبه قدر الفريدة. فما كات مني سوى أن جعلتها تمشي وتمشي حتى أوقفتني في وسط الطريق ونحن في طريقنا لحضور مسرحية The Lion King، والتي كانت ستحضرها فقط مجاملة لي وللأولاد، وقالت بغضب بسيط (هتون إنت ما تستحي؟؟؟ لك ساعة تقولي باقي خمسة دقايق، خلاص أهجدي واطلبي تاكسي)، واستوعبت وقتها أن من حقها أن تتعب ولكن لأنها أفضل وأجمل رفيق سفر، فهي لا تعترض، وكانت هذه إحدى المرات القلائل التي توبخني فيها في رحلة من الرحلات وكنت أستحق، هذا خلاف الأيمان التي أقسمتها أن لا تسافر بالقطار بعد أن تعبت أعصابها خلال زياراتها لي وقت الابتعاث حين كنا نسافر كثيرا به قبل أن أتعلم القيادة، ونجر الحقائب وعربة أواب حين كان صغيرا، ومرات يفوتنا القطار بعد أن نكون قد أوشكنا على اللحاق به، فنقف لاهثي الأنفاس ونحن نراه يتحرك أمامنا، فتنظر لي الفريدة وتقول (خلاص ما صار شي، لعله خير، نلحق اللي بعده)، وأنا أعرف يقينا أنها مجهدة ومتعبة، ولكني كنت أصدق أنها دائما وكما عودتنا، بخير.

حسنا يا فرودة، سأخبرك عن ذاك اليوم العصيب الذي سمعنا فيه خبر رحيلك. قد أخبرك بالتفاصيل الدقيقة عن وقع الخبر علي في وقت لاحق، لكن الآن، سأحكي لك عن عمق النوم الذي غشاني به الله بعد نهاية يوم خلته الأطول في حياتي. لا تغضبي مني يا حبيبتي، نعم نمت، وبعمق شديد في نفس اللحظة التي لمس فيها رأسي الوسادة. رحلت في الصباح، وصلوا عليك صلاة المغرب، وأذكر أني في حدود الساعة الثانية عشرة ليلا، زحفت زحفا للفراش بقدمي المكسورة، واندسست فيه ولم أشعر بنفسي سوى وقت آذان الفجر. نمت ما يقارب الخمس ساعات، وهو متوسط عدد ساعات نومي كما تعلمين، ولطالما وبختني على قلة النوم بعبارات على شاكلة (تحبي الشقا، ايش مصحيكي قد كدة بدري؟ انت ما تعرفي ترتاحي؟). كيف نمت؟ قلبي المحترق وعقلي الصاخب الذي يحاول الاستيعاب وكل الأصوات المدوية في رأسي، كيف نمت؟ فكرت كثيرا في تلك اللحظات العجيبة، حاولت إيجاد تفسير منطقي لكيف نمت في ليلة قال الجميع بأنهم لم يتمكنوا فيها من الغفو لحظة. استرجعت ردود أفعالي في ظروف وفاة أخرى، كنت أجد صعوبة في النوم، عقلي كان ينشغل بكل أهل الميت وكيف سيتعاملون مع الأمر وماذا أستطيع أن أفعل لهم وكيف سنكون مصدر عون، وأكثر من كنت أفكر فيها هي فرودة حين توفى أشقائها رحمهم الله على فترات متباعدة وغيرهم من أفراد عائلتها. أما حين كانت هي من ذهبت، أفكر في من؟ شعرت بأن الكون تقلص وأن الحزن في قلبي لا يسعه تفكير في أي شخص ولا أي حدث، خواء في العقل رغم صخب الأصوات، فراغ في القلب رغم القهر، فنمت بعمق غريب، ليصدمني الشريط حال استيقاظي، ولازال.

لا شئ أكثر للآن يا فرودة، كلنا بخير. بيتك يا حبيبتي عامر. أحاطنا الأهل والأحباب برعاية وحب جعلتنا عاجزين حتى عن الرغبة برد الجميل لهم. نحن نحصد ما زرعته يا حبيبتي. أنت من نثر الحب في كل مكان، أنت من احتوى الجميع، أنت من كنت تتصلين بأي شخص سافر والداه أو تغيبوا لأي سبب وتدعيه لغداءك الأسبوعي مع أسرتك حتى لا يشعر بالوحدة، أنت من كنت تذهبين لكل المناسبات السعيدة والحزينة محملة بأطايب المأكولات، أنت من كنت تتأكدين من صنع الطعام المفضل لمن تذهبين لهم حتى يسعد قلبك برؤية الرضا في أعينهم، أنت من كنت تبتكرين المناسبات فقط ليتجمع أحبابك القريبين والبعيدين، وإذا تضجر أحدنا من التعب والمجهود الذي يصاحب هذه المناسبات رمقته بإحدى نظراتك (بطلوا ضياقة العين، كله يصير)، وكان فعلا (كله يصير) وعلى أكمل وجه، لأنك كنت أنت. لا شئ سيعود كما كان، وهذا الفراغ لن يمتلئ، ووحده رب العباد كفيل بالجبر، والحمد لله على قضاءه وقدره وجميل صنعه.

فقط ملاحظة، لازلت لا أريد إخبارك عما يحصل في غزة ولا عن الإبادة الجماعية التي يقوم بها ذاك الكيان المغتصب دون رادع، ولكن نعدك أن نكثف الدعاء كما كنت تفعلين دائما، دمت منعمة يا باهية عند رب بإذن الله راض عنك غير غضبان.

هتون،

٣/١١/٢٠٢٣